[النمط الثانى من أنواع البديع وأصنافه مما يتعلق بالفصاحة المعنوية]
اعلم أنا قد اخترنا إيراد أنواع البديع على هذين النمطين وهما فى الحقيقة متقاربان، لأنه لا بد من اعتبار اللفظ والمعنى فيهما جميعا، خلا أن الأول الغرض فيه الاعتماد على فصاحة الألفاظ وعلى هذا يكون المعنى تابعا، النمط الثانى المقصود منه هو الاعتماد على بلاغة المعانى وتكون الألفاظ تابعة، وعلى هذا يعقل التغاير بين النمطين، وكل ما ذكرناه خوض فى علم البديع وبيان أنواعه،
[ويشتمل هذا النمط على خمسة وثلاثين صنفا نوردها الأول فالأول.]
[الصنف الأول التفويف]
وهو فى علم البديع فى الذروة العليا، وهو فى مصطلح علماء البيان ما يدل على معنى آخر بقرينة أخرى كما ستراه موضحا بالأمثلة، واشتقاقه من قولهم برد مفوّف، وهو الذى يكون على لون ثم يخالطه لون أبيض، وقد يرد التفويف فيه تارة من جهة لفظه وتارة من جهة معناه، فهذان ضربان نذكر ما يتعلق بكل واحد منهما ونمثله بمعونة الله تعالى
[الضرب الأول منهما راجع إلى المعنى،]
وضابطه هو أن تصف الممدوح بما يدل على مدحه من صفات المكارم وسمات المحامد، ثم تورد صفات دالة على ذمه، لكن اقترن بها ما يرشد إلى كونها مدحا، فالتفويف داخل فى هذه الجهة، ومثاله قول جرير «١» :
هم الأخيار منسكة وهديا ... وفى الهيجاء كأنّهم صقور
بهم حدب الكرام على المعالى ... وفيهم عن مساويهم فتور
خلائق بعضهم فيها كبعض ... يؤمّ كبيرهم فيها الصّغير
عن النّكراء كلهم غبىّ ... وبالمعروف كلّهم بصير
فكل واحد من هذه الأبيات قد تضمن ما يرشد إلى الذم، لكنه اقترن به ما أخرجه إلى المدح فقوله «كأنهم صقور» صفة ذم لأن من شأن الصقور الخطف والبغى لكنه لما اقترن بقوله «الهيجا» كان مدحا لأن الإنسان إذا كان فى الحرب كالصقر يغلب غيره ويسلبه فهو