ومثال ذلك أنك إذا تصورت فى نفسك معنى من المعانى، فإنك إذا أردت أن تصوغه بلفظ مسجوع ولم يواتك ذلك، ولا سمحت قريحتك به إلا بزيادة فى ذلك اللفظ أو نقصان منه من غير حاجة إلى ذلك النقصان وتلك الزيادة، وإنما تأتى بالزيادة والنقصان من أجل تسوية السجع وإظهار جوهره لا من أجل المعنى، فما هذا حاله هو الذى يذم من التسجيع ويقبح، لما فيه من إصلاح اللفظ دون المعنى، ولما فيه من التكلف والتعسف المستغنى عنه، فأما إذا كان من غير تكلف فإنه يأتى فى غاية الحسن.
[الشريطة الثالثة: أن تكون تلك المعانى الحاصلة عن التركيب مألوفة غير غريبة ولا مستنكرة ولا ركيكة مستبشعة،]
لأنها إذا كانت غريبة نفرت عنها الطباع وكانت غير قابلة لها، وإذا كانت ركيكة مجتها الأسماع، فكل واحدة من السجعتين دال على معنى حسن بانفراده، لكن انضمام إحداهما إلى الأخرى هو الذى ينافر من أجل التركيب.
[الشريطة الرابعة: أن تكون كل واحدة من السجعتين دالة على معنى مغاير للمعنى الذى دلت عليه الأخرى،]
لأنه إذا يكون من باب التكرير فيكون على هذا لا فائدة فيه، فهذه الشرائط الأربع لابد من اعتبارها فى كل كلام مسجوع.
[الفائدة الثالثة فى ذكر أقسامه]
اعلم أن السجع منقسم إلى ما يكون طويلا، وإلى ما يكون قصيرا، فأما القصير فهو أوعر أنواع التسجيع مسلكا، وأصعبها مدركا، وأخفها على القلب، وأطيبها على السمع، لأن الألفاظ إذا كانت قليلة فهى أحسن وأرق، لأنها إذا كانت أطرافها متقاربة لذت على الآذان لقرب فواصلها ولين معاطفها، ومن هذا النوع القصير قوله تعالى وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (١) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (٢) وَالنَّاشِراتِ نَشْراً (٣) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (٤)
[المرسلات: ١- ٤] وقوله تعالى فى صدر سورة المدثر: يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنْذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧)
[المدثر: ١- ٧] وأقل ما يكون القصير من كلمتين لا غير، لأن ما نقص عن ذلك فليس مؤلفا مسجوعا، وأما الطويل فهو ما عدا ذلك، وكلما قلت كلماته وقرب من التعبير كان أحسن لما ذكرناه، وقد تكون السجعتان ثلاثا ثلاثا، وأربعا أربعا، وخمسا خمسا، وقد تزيد على ذلك حتى تنتهى إلى عشرين كلمة، ومع ذلك فليس له حد مضبوط، فمن الثلاثية قوله تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (٦)
[النازعات: ٦] ثم قال: قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (٨)