ومختبى البعوض بين سوق الأشجار وألحيتها، ومغرز الأوراق من الأفنان، ومحط الأمشاج من مسارب الأصلاب، وناشئة الغيوم ومتلاحمها، ودرور قطر السحاب ومتراكمها، وما تسفى الأعاصير بذيولها، وتعفو الأمطار بسيولها، وعوم نبات الأرض فى كثبان الرمال ومستقر ذاوت الأجنحة. بذرا شناخيب الجبال، وتغريد ذوات المنطق فى دياجير الأوكار، وما أودعته الأصداف وحضنت عليه أمواج البحار، وما غشيته سدفة ليل، وذر عليه شارق من نهار، وما اعتقبت عليه أطباق الدياجير وسبحات الأنوار، وأثر كل خطوة وحس كل حركة، ورجع كل كلمة، وتحريك كل شفة، ومستقر كل نسمة، ومثقال كل ذرة، وهماهم كل نفس همامة، وما عليه من ثمرة شجرة أو ساقط ورقة، أو قرار نطفة، أو نقاعة دم، أو مضغة، أو ناشئة خلق وسلالة، فلينظر الناظر ما تضمنه كلامه ههنا من الإشارة إلى كيفية الإحاطة له تعالى بالمعلومات بألطف عبارة وأرشقها، وهذا من أعجب أماكن الإطناب وأرفع مراتبه.
[النكتة السادسة فى تنزيه الله تعالى عن مشابهة الممكنات واستحالة الأعضاء عليه،]
قال فأشهد أنّ من شبهك بتباين أعضاء خلقك وتلاحم حقائق مفاصلهم المحتجبة بتدبير حكمتك لم يعقد غيب ضميره على معرفتك، ولم يباشر قلبه اليقين بأنه لا ند لك، فكأنه لم يسمع تبرؤ التابعين من المتبوعين إذ يقولون: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٩٧) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (٩٨)
[الشعراء: ٩٧- ٩٨] كذب العادلون بك إذ شبهوك بأصنامهم، ونحلوك حلية المخلوقين بأوهامهم، وجزأوك تجزئة المجسمات بخواطرهم، وقدروك على الخلقة المختلفة القوى بقرائح عقولهم، فأشهد أن من ساواك بشىء من خلقك فقد عدل بك، والعادل بك كافر بما تنزلت به محكم آياتك ونطقت عنه شواهد حجج بيناتك، وأنك أنت الله لم تتناه فى العقول فتكون فى مهب فكرها مكيفا، ولا فى روايات خواطرها محدودا مصرفا، فظاهر كلامه دال على إكفار المشبهة، وقد رمزنا فى شرحنا لكلامه هذا إلى تفاصيل القول فى التشبيه وذكرنا من يكفر ومن لا يكفر من المشبهة ما خلا القول فى إكفار من يكفر من أهل القبلة، وحقيقة الإكفار بالتأويل، فقد أودعناه كتابنا الذى أمليناه فى الإكفار وذكرنا فيه ما يكفى ويشفى والحمد لله.