القول الثالث محكى عن الزمخشرى، وحاصل مقالته هو أن ورود الالتفات فى الكلام إنما يكون إيقاظا للسامع عن الغفلة، وتطريبا له بنقله من خطاب إلى خطاب آخر، فإن السامع ربما ملّ من أسلوب فينقله إلى أسلوب آخر، تنشيطا له فى الاستماع، واستمالة له فى الإصغاء إلى ما يقوله، وما ذكره الزمخشرى لا غبار على وجهه، وهو قول سديد يشير إلى مقاصد البلاغة، ويعتضد بتصرف أهل الخطاب، ومن مارس طرفا من علوم الفصاحة لاح له على القرب، أن ما قاله الزمخشرى قوى من جهة النظر، يدرى كنهه النظّار، ويتقاعد عن فهمه الأغمار، وقد زعم ابن الأثير ردا لكلام الزمخشرى بوجهين، أحدهما أنه قال إنما جاز الالتفات من أجل التنشيط للسامع، واعترضه بأن الكلام لو كان فصيحا لم يكن مملولا، وهذا خطأ وجهل بمقاصد البلاغة، فإن مثل هذا لا يزيل فصاحة الكلام، ولا ينقص من بلاغته، ولهذا فإنه لو ترك فيه الالتفات فإنه باق على الفصاحة، ولكن الغرض أن خروجه من أسلوب الخطاب إلى الغيبة، يزيد فى البلاغة ويحسّنها، ويكون الخطاب مع ما ذكرناه أوقع وأكشف عن المراد وأرفع. وثانيهما قوله: إن ما قاله الزمخشرى إنما يوجد فى الكلام المطول، والالتفات كما يستعمل فى الطويل فهو يستعمل فى القصير، وهذا فاسد أيضا فإن الزمخشرى لم يشترط التطويل فى حسن الالتفات، فينتقض بما ذكرته، وإنما أراد تحصيل الإيقاظ وازدياد النشاط بذكر الالتفات، وهذا حاصل فى الكلام سواء كان طويلا أو قصيرا، فإذن لا وجه لكلام ابن الأثير على ما قصده الزمخشرى وانتحاه، ومن العجب أنه شنّع فيما أورده على الزمخشرى وقال: كيف ذهب عنه معرفته مع إحاطته بفن البلاغة والفصاحة، وما درى أن ما قاله خير مما أتى به ابن الأثير، فإن ما أراده الزمخشرى معنى يليق بالبلاغة، ويزيدها قوة، وما ذكره ابن الأثير رد إلى عماية، وقول ليس له حاصل، ولا يدرك له نهاية، وما عابه إلا لأنه لم يطلع على أغواره، ولا أحاط بكنهه، ودقيق أسراره، ولقد صدق من قال «١» :
وكم من عائب قولا سليما ... وآفته من الفهم السقيم
وإذا تم ما ذكرناه فلنرجع إلى تقرير الالتفات وتقرير أساسه، فنقول الالتفات يرد على أضرب ثلاثة:
الضرب الأول ما يرجع إلى [الغيبة، والخطاب، والتكلم] ،