ومن ذلك ما ذكره عند تلاوته: رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ
[النور: ٣٧] وما برح لله، عزت آلاؤه فى البرهة بعد البرهة، وفى أزمان الفترات عباد ناجاهم فى فكرهم وكلمهم فى ذات عقولهم، فاستصبحوا بنور يقظة فى الأسماع والأبصار والأفئدة، يذكرون بأيام الله، ويخوفون مقامه، بمنزلة الأدلة فى فلوات القلوب، من أخذ القصد حمدوا إليه طريقه وبشروه بالنجاة، ومن أخذ يمينا وشمالا ذموا إليه الطريق، وحذروه من الهلكة، وكانوا كذلك مصابيح تلك الظلمات، وأدلة تلك الشبهات.
ومن ذلك ما ذكره عند تلاوته قوله تعالى: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦)
[الأنفطار: ٦] أدحض مسئول حجة، وأقطع مفتر معذرة، لقد أبرح جهالة بنفسه، يأيها الإنسان ما جرأك على ذنبك، وما غرك بربك، وما آنسك بهلكة نفسك، أما من دائك بلول، أليس من نومتك يقظة، أما ترحم من نفسك ما ترحم من غيرك، فانظر أيها المتأمل إلى هذه المطالع فى الوعظ والزجر، وهذه الافتتاحات بمعانى هذه الآى كيف طبق مفاصلها ولم يخالف مجراها، ولا أخذ فى غير طريقها، وأتى بما يلائم معناها، ويوافق مجراها، ويحقق مغزاها بالكلام الذى تبهر القرائح فصاحته، وتدهش العقول جزالته وبلاغته، ولله در أمير المؤمنين لقد فاق فى كل خصاله، ونكص كل بليغ أن يحذو على مثاله، خاصة فيما يتعلق بالخطب فى التوحيد فإنها افتتاحات ملائمة للمقصود أشد الملاءمة.
[المثال الرابع ما ورد من كلام البلغاء فى ذلك،]
وأحسن ما قيل فى الافتتاح ما قاله أبو تمام فى قصيدته التى امتدح بها المعتصم عند فتحه لمدينة عمّوريّة، وقد كان أهل التنجيم زعموا أنها لا تفتح عليه فى ذلك الوقت، وأفاض الناس فى ذلك حتى شاع الأمر وصار أحدوثة بين الخلق، فلما فتحت عليه، بنى أبو تمام مطلع القصيدة على هذا المعنى مكذبا لهم فيما قالوه، ومادحا للمعتصم فى شدة البأس وإعراضه عن التطير بالنجوم فقال.
السيف أصدق أنباء من الكتب ... فى حدّه الحدّ بين الجدّ واللعب «١»
بيض الصّفائح لا سود الصحائف فى ... متونهنّ جلاء الشّكّ والرّيب
وقال معرضا بأهل النجوم وأنه لا عبرة بما قالوه فى ذلك:
والعلم فى شعب الأرماح لامعة ... بين الخميسين لا فى السبعة الشهب
أين الرواية أم أين النجوم وما ... صاغوه من زخرف فيها ومن كذب