حاصلا على الانتظام العجيب، فوروده على هذه الصفة لا محالة يقدح فى إعجازه.
والجواب عن قوله تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ
أنه إنما قدم العبادة على الاستعانة من جهة أن الاهتمام كان من أجل العبادة، فلهذا قدمها لأن العبادة من جهتهم، والإعانة إنما هى حاصلة من جهته، فكأن الذى يكون من جهته حاصل لا محالة غير متأخر لقوة الداعية إليه، بخلاف الذى يكون من جهتهم، فإنه ربما وقع، وربما لم يقع، فمن أجل ذلك كانت العناية بتقديم العبادة أعظم، ومن وجه آخر، وهو أن تقديم الوسيلة ربما كان أدخل فى إنجاح المطلوب وأسرع إلى تحصيله.
فأما قوله تعالى وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها
[الأعراف: ٤] فقد ذكر المفسرون فيها وجوها، إما على أن التقدير فيها «وكم من قرية أردنا إهلاكها فجاءها بأسنا» فالعطف لمجىء البأس إنما كان على الإرادة، وهى سابقة لا محالة، وإما على أن التقدير، وكم من قرية أهلكناها فحكمنا بمجىء البأس بعد الإهلاك، لأن الحكم بمجىء البأس لا يكون إلا بعد وقوعه وحصوله، وإما على أن الإهلاك ومجىء البأس فى الحقيقة أمر واحد، وحقيقة واحدة يجوز تقديم أحدهما على الآخر من غير ترتيب بينهما، وعلى هذا تقول: وكم من قرية أهلكناها فجاءها بأسنا، وكم من قرية جاءها بأسنا فأهلكناها، فلا يعقل بينهما ترتيب، لما كانت حقيقتهما واحدة، كما تقول سرت إلى السوق فجئته وجئت السوق فسرت إليه، فالقرآن الكريم لا يخلو عن هذه اللطائف والأسرار الجارية على القوانين الإعرابية، والأسرار الأدبية، بحيث لا يخالفها من تفطن لها منه وأخذها أخذ مثلها مع استيلائه على حقائق هذين العلمين علم المعانى وعلم البيان.
[الجهة الرابعة عشرة من المطاعن على القرآن كونه موضحا للأمور الواضحة،]
[البقرة: ١٩٦] هذا حاله فهو جلى لا يحتاج إلى بيان، لأن الثلاثة إلى السبعة، هى عشرة أعداد لا محالة، فقوله تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ
خلو عن الفائدة، وما هذا حاله فإنه لا يليق بما كان معجزا، ثم إذا كان بهذه الحالة فكيف زعمتم أنه تؤخذ منه الأسرار الدقيقة، وتستنبط منه المعانى الغريبة فما هذا حاله فى الكلام لا يكون خليقا بما ذكرتموه.
والجواب عما أوردوه من أوجه ثلاثة، أما أولا فلأن الإيضاح والبيان مقصدان من مقاصد الفصاحة والبلاغة، وقد تكلم علماء البيان فيهما جميعا، وأنهما مما يزيد الكلام