اعلم أنه لا مطمع لأحد من الخلق وإن عظم حاله فى الإحاطة بجميع مزايا القرآن والاستيلاء على عجائبه، وما اختص به من دقائق المعانى وكنوز الأسرار وعلو مرتبته فى الفصاحة، وكونه فائقا فى البلاغة، ومباينته لكلام فصحاء العرب، وكل ذلك فيه دلالة على شرفه، وأنه فائق على غيره من سائر الكلام كله بحيث لا يدانيه كلام، ولكنى أنبه من تلك الأسرار على أدناها مستعينا بالله تعالى، مستمدا من فضله، طالبا للإرشاد فى كل مقصد ومراد، وليس تخلو تلك المزية التى تميز بها حتى صار فى أعلا ذروة الفصاحة ومقتعد صهوة البلاغة، إما أن تكون راجعة إلى الألفاظ، أو إلى المعانى، فهاتان مرتبتان.
[المرتبة الأولى فى المزايا الراجعة إلى ألفاظه]
تارة ترجع إلى مفردات الحروف، وتارة إلى تأليفها من تلك الأحرف، ومرة إلى مفردات الألفاظ، ومرة إلى مركباتها، فهذه أوجه أربعة لابد من اعتبارها فى كون اللفظ فصيحا، وكلها حاصلة فى القرآن على أتم وجه وأكمله.
[الوجه الأول منها مفردات الأحرف،]
ولابد من أن تكون مستعملة من هذه الأحرف التسعة والعشرين، فإنها جميعا حروف العربية، فلا يكون اللفظ الفصيح مؤتلفا إلا منها، وما خرج عنها فقد يكون مستعملا، وقد يكون مستهجنا، فأما المستعمل فهو همزة بين بين، وألف الإمالة، والتفخيم نحو إمالة هدى وهاد، ونحو الصلوة فى التفخيم، والنون الساكنة نحو عنك، فإن هذه وإن كانت خارجة عن أحرف العربية التسعة والعشرين، لكنها فصيحة مستعملة فى كتاب الله تعالى، وفى كل كلام فصيح، وأما المستهجن فهو الطاء التى كالتاء فى نحو «تالب» فى «طالب» والظاء التى كالثاء نحو فى «ثالم» فى «ظالم» والفاء التى كالباء فى نحو قولك «ضرف» فى «ضرب» والجيم التى كالكاف فى نحو «كابر» فى مثل قولنا «جابر» إلى غير ذلك مما يكون خارجا عن اللغة الفصيحة، فما هذا حاله لا يكون فى الكلام الفصيح، وإنما الغالب عليه لغة الأنباط والأعاجم والأكراد، فما هذا حاله فكتاب الله تعالى مجنّب عنه لا يجوز دخوله فيه، لما فيه من الركة والتواء اللسان، فأما الجيم الذى أطبق من قوله:
جَعَلَ رَبُّكِ
[مريم: ٢٤] وفى نحو قوله: وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا
[التوبة: ٩٧] فهى فصيحة مقروء بها فى السبعة، فما هذا حاله لا يجب تنزيه كتاب الله تعالى عنه.