إنما اختير لفظ «يا» من بين سائر أحرف النداء من جهة أنها كثيرة الدور فى الاستعمال، وأنها موضوعة للدلالة على بعد المنادى، والبعد هنا يجب أن يكون معنويا، لأن البعد الحسى على الله تعالى محال، من جهة استحالة الجهة على ذاته، وذلك أن المعنوى يكون من جهات خمس، أولها: أنه تعالى لما كان مختصا بعدم الأولية فى ذاته سابقا على وجود الممكنات سبقا أوليا بلا نهاية، وأن الأرض من جملة الممكنات التى لها بداية، ولا شك أن كل ما كان لا أول له فهو فى غاية البعد عما له أول، وثانيها: من جهة عدم التناهى فى ذاته تعالى من كل وجه، بخلاف الأرض، فإنها متناهية فى ذاتها من كل وجه، وليس يخفى ما بين التناهى وعدم التناهى من البعد العظيم، وثالثها: اختصاص ذاته بالعظمة والكبرياء، واختصاص الأرض بنقيضها من التسخير والقهر، ورابعها:
اختصاص ذاته بالاستغناء من كل وجه فى ذاته وصفاته، بخلاف الأرض، فإنها مفتقرة فى ذاتها من كل وجه إلى فاعل ومدبر، ومن كان مستغنيا فى ذاته وصفاته فإنه فى غاية البعد المعنوى عما يكون مفتقرا فى ذاته وصفاته إلى غيره، وخامسها: أنه نداء من اختص بكمال العزة لمن هو فى غاية الذلة، كما ينادى السيد عبده، فلما كانت الأرض مختصة بما ذكرناه من البعد من هذه الأوجه، لا جرم كان نداؤها مختصا ب «يا» من بين صيغ النداء، وإنما قال: يا أَرْضُ
ولم يقل:«يا أرضى» إيثارا لتحقيرها، لأنه لو أضافها إلى نفسه، لكان قد أقام لها وزنا عنده بإضافتها إليه، لأن المضاف أبدا يكتسى من المضاف إليه شرفا وتخصيصا وتعريفا، ولم يقل:«يا أيّتها الأرض» إيثارا للاختصار، وعملا على الإيجاز، وتحرزا عن الإيقاظ بما يظهر من لفظ التنبيه الذى لا يليق بمقام الخطاب الإلهى، لاستحالته فيه، واختير لفظ الأرض لأمرين، أما أولا: فلأن المدحوّة والمبسوطة والمهاد وغير ذلك، مما يستعمل فى الأرض صفات زائدة تابعة للفظ الأرض، وأما ثانيا: فلأن لفظ الأرض أخف وأكثر دورا واستعمالا مما ذكرناه، فلهذا وجب إيثاره على غيره من أسمائها، واختير لفظ