وهو قليل الاستعمال، وهذا كقولنا: سأفعل، وسوف أفعل، فإن زمان «سوف» أوسع من زمان السين، وما ذاك إلا لأجل امتداد حروفها وهكذا فإن التأكيد بإنّ الشديدة آكد من التأكيد بإن المخففة، ونحو «لكنّ» فإنها مع التضعيف آكد منها مع التخفيف، فحصل من مجموع ما ذكرناه أن المبالغة فى الألفاظ إنما تكون تبعا للبلاغة فى المعانى، فلا جرم تكثرت الألفاظ لأجل ذلك.
[القانون الرابع فى جهة إضافة الكلام إلى من يضاف إليه]
اعلم أن كل نثر ونظم من جميع الكلمات فله جهتان، الجهة الأولى أن يكون فاعلا له فى الحال، فإذا قال الواحد منا الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢)
[الفاتحة: ٢]«وقفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» فإن هذا الكلام يضاف إليه على جهة أنه فعله وأوجده بقدرته، ولهذا فإنه واقف على حسب قصده وداعيته كسائر أفعاله، فإنه لا فرق بين إيجاده لما قلناه بلسانه، وبين تحريك يده فى أن كل واحد منهما مضاف إليه على معنى أنه فعله واخترعه.
الجهة الثانية أن يكون مضافا إليه على معنى أنه ابتدأه وأنشأه أولا، فإن الحمد لله رب العالمين، مضاف إلى الله تعالى على معنى أنه أنشأه، وهكذا قوله «قفا نبك من ذكرى» فإنه مضاف إلى امرىء القيس، وكل واحد من هاتين الإضافتين حقيقة فى الإضافة؛ لأنهما يسبقان إلى الفهم فلا وجه لجعل أحدهما حقيقة، والآخر مجازا، فإذا تمهّدت هذه القاعدة، فالبلاغة إنما تحصل بتأليف الكلام ونظمه وإعطائه ما يستحقه من الإعراب، وإعمال العوامل، وتوخى جميع معانى النحو ومجاريه التى يستحقها، وبيان ذلك هو أن وضع الكلم المفردة بالإضافة إلى واضع اللغة لا تغيير لها، والتصرف لأهل البلاغة إنما هو فى التأليف، ألا ترى أن أفراد قولنا: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (٢)
[الفاتحة: ٢] مقولة على ألسنة الناس، والإعجاز إنما كان من أجل نظمها وتأليفها بحيث كان الحمد مبتدأ، ولله متأخرا عنه خبره، ورب العالمين، مضاف، وإجراؤه صفة لما قبله فى الإعجاز من جهة الانتظام، فإذن حال أنفس الكلم مع المؤلف كحال الإبريسم مع ناسج الديباج، والذهب مع صائغ التاج، فحظه من ذلك إنما هو تأليفهما ونظمهما لا غير.