وهو أخص من علم المعانى، لأن حاصل دلالته على ما يدل عليه، ليس من جهة الإنشاء، ولا من جهة الخبر، ولكن من دلالة أخص من ذلك، وهى دلالة اللفظ على معناه، إما بحقيقته، بتشبيه، أو غير تشبيه، وإما من جهة مجازه، إما بطريق الاستعارة، أو بطريق الكناية، أو بطريقة التمثيل كما مر تقريره، وهى التى تكسب الكلام الذوق والحلاوة، والرونق والطلاوة، فى البلاغة والفصاحة، فإذا تمهدت هذه القاعدة، فاعلم أن علم البديع حاصله معرفة مقصود بلاغة الكلام وفصاحته، وهذا لا يحصل بتمامه وكماله إلا بإحراز ما سلف من العلوم الأدبية، فهو خلاصتها وصفوها ونقاوتها، وهى وصلة إليه، وأنا الآن أعلو ذروة لا ينال حضيضها فى ضرب مثال لهذه العلوم من الأمثلة الحسنة، يظهر به جوهرها ويروق حسنها، فأقول هذه العلوم الأدبية بمنزلة عقد نفيس مؤلف من الدرر واللآلىء سالمة جواهره من الصدع والانشقاق، مؤلف تأليفا بديعا، فتارة يجعل طوقا فى العنق، وتارة إكليلا على الجبين، وتارة يكون وشاحا على الخصر، موضوعا على شكل يتلاءم تأليفه، فالكلم اللغوية المفردة بمنزلة اللآلىء والدّرر المبددة، وعلم التصريف هو سلامته عن الشقوق والانصداع، وتأليفها هو بمنزلة علم الإعراب، فإذا جعلت طوقا، أو إكليلا، أو قرطا ورعاثا، فهو بمنزلة علم المعانى، فإذا جعل الإكليل على الجبين، وجعل الطوق فى العنق، والقرط فى الأذن، فهو بمنزلة علم البيان، فإذا جعل الإكليل على الجبين مطولا بطوله، والطوق على تدوير العنق، وجعلت على المساحة اللائقة بلبسها، كانت بمنزلة علم البديع، ألا ترى أنه لو وضع الإكليل معترضا على الخد، لم يكن ملائما لحقيقة تأليفه، فكل واحد من هذه العلوم على محلّ ومنزلة فى الحاجة منها، كما فصلته لك كما أن كل واحدة من هذه المزايا فى العقد على حظّ ومرتبة فيه، بحيث لو أخلّ بها، فات الغرض المقصود به، فهذا هو المثال الكاشف عن حال هذا العلم بالإضافة إلى العلوم الأدبية، وهو مطابق لما ذكرت من العقد المؤلف على الحد الذى قررته، فليكن من الناظر تأمّله بعين الإنصاف، فإذا عرفت هذا فلنذكر علم البديع وأسراره، وهى منقسمة إلى ما يكون متعلقا بالفصاحة اللفظية، وإلى ما يكون متعلقا بالفصاحة المعنوية، فهذان طرفان نذكر ما يتعلق بكل واحد منهما من الأمثلة والله تعالى الموفق للصواب.