من كان فيه نفع فهو حقيق بما يفعل فى حقه من رفع المنزلة وعلو الدرجة، وثالثها قوله:
أَوْ يَضُرُّونَ (٧٣)
لأن كل من قدر على النفع فهو قادر على الضرر وعكسه أيضا، لأن حق من كان قادرا على شىء أن يكون قادرا على ضده، لأن القدرة صالحة للأمرين الضدين جميعا والمختلفين، فهذه إلزامات ثلاثة لا محيص لهم عنها، فإذا كان حالها هذه الحال من عدم السمع، واستحالة النفع والضر منها، فلا يليق بحالها العبادة التى هى نهاية الخضوع والذلة للمعبود، مع عدم الأهلية والاستحقاق، هذا محال فى العقول بلا مرية، ثم أجابوه بالإقرار بما ألزمهم من عدم ذلك منها فزاد إقرارهم الإلزام تأكيدا وإفحاما فقالوا الأمر فيها كما قلته لكنا وجدنا آباءنا كذلك يفعلون، فنادوا على أنفسهم بالجهالة، وأقروا بركوب الضلالة، وأنهم ما فعلوا ذلك عن نظر وتفكر وتدبر، فوصفوا نفوسهم بالقصور عن مراتب النظار، وانخرطوا فى سلك أهل الغباوة والأغمار، وزعموا أنه لا عمدة لهم فى ذلك إلا وجدان الآباء، واقتفاء آثار الأسلاف والرؤساء.
[التخلص الثالث]
أنه لما تحقق تعويلهم على التقليد خرج إلى إبطال أمره وتزييفه بقوله: قالَ أَفَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (٧٥) أَنْتُمْ وَآباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (٧٦)
[الشعراء: ٧٥- ٧٦] فأورد الرد عليهم بالاستفهام على جهة الإنكار متعجبا من حالهم حيث جعلوا ما لا يكون، حجة وبرهانا، وليس حجة، بل هو شبهة منكرة، وأخرجه عن أن يكون حجة، كأنه قال أفلا ترون ما جعلتموه مستندا لعبادتكم أنتم ومن سلف من آبائكم القدماء، هل مثله يعبد مع كونه لا يسمع ولا ينفع ولا يضر ولا يملك شيئا، وفيه تعريض بحالهم وتجهيل لهم وأن من هذه حاله من عبادة حجر لا يضر ولا ينفع فلا عقل له، ولا يكون معدودا من العقلاء.
[التخلص الرابع]
هو أنه لما ذكر أنهم لا يستحقون العبادة خرج إلى ذكر عداوته لمن هذه حاله، فلهذا قال عقيب ذلك فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ
كأنه صور المسئلة فى نفسه على معنى إنى فكرت فى أمرى ونظرت فى حالى، فرأيت أن عبادتى لها عبادة للشيطان العدو فاجتنبتها، وإنما قال:«فإنهم عدوّ لى» بالإضافة إلى نفسه ولم يقل فإنهم عدو لهم، ليريهم بذلك أنها نصيحة ينصح بها نفسه ليكون ذلك أدعى لهم إلى القبول لقوله، وأبعث إلى الاستماع لخطابه، ولو قال:
فإنهم عدو لكم، لم يفد هذه الفائدة، وكان القياس فى الخطاب بالضمير أن يقول: فإنها