وحاصلها أن القرآن إنما يستقيم كونه حجة، إذا تقرر كونه من جهة الله تعالى، ومن الجائز أن يكون ألقاه إلى الرسول صلّى الله عليه وسلّم بعض الملائكة، أو بعض الجن، أو الشياطين فلا يستقيم كونه حجة إلا بعد بطلان هذا الاحتمال.
والجواب عما ذكروه من هذا الاحتمال البعيد يجرى على وجهين، الوجه الأول منهما إجمالى، وذلك من أوجه ثلاثة أولها أنا لو ساعدناكم على ذلك، وكان مدعى النبوة كاذبا، لوجب على الله تعالى أن يمنعه من ذلك لئلا يفضى إلى الإضلال بالخلق، والتلبيس عليهم فى أحوال دينهم، لأن الحكمة مانعة، فإن الله تعالى لا يجوز أن يسلط الشّبه على وجه لا يمكننا حالها، وثانيها أنا لو جوزنا ذلك لجاز أن يكون جرى الشمس، والقمر والنجوم، والأفلاك كلها، وجرى الفلك فى البحر وغير ذلك من الأمور الهائلة لواحد من هذه الاحتمالات، وخلاف ذلك معلوم بالضرورة، وثالثها أن هذه الوجوه لو كانت محتملة لذكرتها العرب فى القدح فى نبوته، لأن من المعلوم ضرورة حرصهم على ما كان مبطلا لدعواه فلما لم يذكروا شيئا من هذه الاحتمالات دل على بطلانها وفسادها. الوجه الثانى منهما تفصيلى: وذلك يكون من أوجه، أولها أنا نعلم بالضرورة علما لا مرية فيه، أن محمدا صلّى الله عليه وسلّم هو الآتى بالقرآن، فإذا كان ما ذكرتموه من الاحتمال يدفع هذا العلم، وجب القضاء بفساده، وثانيها أنه لا طريق إلى إثبات الجن، والملائكة، والشياطين، إلا بالسمع، فكيف يصح الطعن فى النبوة والقرآن بما لا يكون ثابتا إلا بعد ثبوتهما، وثالثهما أنه قد تحدى جميع الخلق الأحمر، والأسود، والجن، والشياطين، بالقرآن، وادعى عجزهم عنه، فلو كان ذلك من فعلهم لتوفرت دواعيهم إلى معارضته، لأن كل من نسب إلى العجز عن الشىء وكان قادرا عليه، فإنه لا بد من أن يكون إثباته كما قررناه فى حال الإنس، ورابعها أنه كان ينهى عن متابعة الشياطين، ويأمر بلعنهم والبراءة منهم، ويحذر عن ملابستهم فى المطاعم، والمشارب، والمساكن، فلو كان الفاعل للقرآن هو الجن والشياطين لاستحال منهم نصرته مع شدة عداوته لهم، وأمره بالبعد عنهم واللعن لهم، وخامسها أن القرآن الذى ظهر على يد محمد صلّى الله عليه وسلّم، لو جاز إسناده إلى الجن كما زعموه، لجاز ذلك فى كل كتاب يدعى كل إنسان أن تصنيفه، أن يكون ذلك الكتاب من قبيل الجن، وعند هذا يلزم فى هذه الكتب المشهورة أن لا تكون مضافة إلى قائليها لمثل ما ذكروه فى القرآن، وهذا يؤدى إلى التشكيك فى الأمور الضرورية وهو محال، فبطل ما قالوه.