أمر السحر، وأما رابعا: فقوله الأعلى، إنما جاء بلفظة أفعل، ولم يقل العالى لأن مجيئها على جهة الزيادة فى تلك الخصلة للمبالغة، وأما خامسا: فتحقيق الغلبة بقوله الأعلى، لأن معناه الأغلب، وعدل إلى لفظ الأعلى لما فيه من الدلالة على الغلبة بالفوقية لا بالمساواة، وأما سادسا: فلأنه أتى بقوله إنك أنت الأعلى، على جهة الاستئناف، ولم يقل قلنا لا تخف لأنك أنت الأعلى؛ لأنه لم يجعل عدم الخوف سببا لكونه غالبا عليهم، وإنما نفى عنه الخوف بقوله لا تخف، ثم استأنف الكلام بقوله إنك أنت الأعلى، فلا جرم كان أبلغ فى شرح صدر موسى وأقر لعينه فى القهر والاستيلاء، فينحلّ من مجموع ما ذكرناه إفادة البلاغة من التأكيد كما أشرنا إليه، وهذا من لطيف علم البيان، ومما تكثر فيه النكت والغرائب البديعة، فأما تأكيد المنفصل بالمتصل فلم يرد فى كلام العرب فلا حاجة بنا إلى الكلام عليه.
المسألة الخامسة [الإظهار فى موضع الإضمار] ،
واعلم أن هذا وإن كان معدودا من علم الإعراب لكن له تعلّق بعلم المعانى، وذلك أن الإفصاح بإظهاره فى موضع الإضمار له موقع عظيم وفائدة جزلة، وهو تعظيم حال الأمر المظهر والعناية بحقه، ومثاله قوله تعالى: أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ
[العنكبوت: ١٩] ثم قال بعد ذلك ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ
[العنكبوت: ٢٠] فانظرا إلى إظهاره اسمه جل جلاله فى قوله:
ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ
وكان قياس الإعراب ثم ينشىء النشأة الآخرة، لأنه قد تقدم ما يفسر هذا الضمير وهو قوله: كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ
والفائدة فى ذلك هو المبالغة فى الأمر المظهر وإظهار الفخامة فيه، كقوله تعالى: الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢)
[الحاقة: ١- ٢] وقد يرد الإظهار على جهه الإنكار وشدة الغضب والتهكم بحالهم والتعجب من عنادهم وجحدهم، وهذا كقوله تعالى: ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا
[ص: ١- ٢] ثم قال بعد ذلك وَقالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (٤)
[ص: ٤] والغرض هو إفراط النكير عليهم والتعريض بأنهم الكفرة حقا أهل التمرد الذى لا شك فيه، والمراء الذى لا مدفع له، وفى التنزيل كثير من هذا، ليدركه من كان له ذهن حاضر وفؤاد حديد وحظى من الله بتوفيق وألقى السمع وهو شهيد.