إسنادها إلى مؤثر هو عدم، وأنه لا أولية لوجوده، إذ لو كان له أول لاحتاج إلى مؤثر فإما أن يفتقر كل واحد منهما إلى صاحبه، وهو الدور، أو يحتاج إلى مؤثر ومؤثره إلى مؤثر، إلى غير غاية، وهو التسلسل، وكلاهما محال فى العقل لأمور قررناها فى الكتب العقلية ثم قال: فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ
فليس الغرض ذكر أدنى العدد، فأقله ساعة واحدة، ولا الغرض الإشارة إلى أكثر الأعداد فهى بلا نهاية، وبين هذين وسائط من مراتب الأعداد كثيرة ومن عرف باهر القدرة علم قطعا أن خلق هذه المكونات ممكن فى لحظة واحدة، ولكن الغرض بالتقدير إشارة إلى قوله: سرّ ومصلحة استأثر الله بعلمها ومصداق ما قلناه قوله تعالى:
ظاهر الآية دال على أن الاستواء إنما كان بعد خلق السموات والأرض وإكمال أحوالهما، فأما خلق العرش فليس فى ظاهر الآية ما يدل على تعين وقت خلقه فبقى الأمر فيه على الاحتمالين حتى يدل دليل شرعى على ذلك، والعرش والكرسى من أعظم المخلوقات، لما خصهما الله تعالى من عظم الخلق، ولما اشتملا عليه من الأسرار الإلهية، والحكم المصلحية التى لا يحيط بعلمها إلا الله تعالى.
والاستواء فيه وجهان، أحدهما: أن يكون بمعنى الاستيلاء يقال: فلان الملك قد استوى على ملكه، أى استولى عليه وأحاط به فلا يشذ عنه منه شىء، وثانيهما: أن يكون الاستواء على حاله من غير تأويل من قولهم: الأمير استوى على سرير مملكته أى تمكن فيه، وتحقيقه، قعد عليه قعود المتمكن المستقر، لا قعود القلق المنزعج، وكلاهما حاصل فى حق الله تعالى، فعلى المعنى الأول أن الله استولى على العرش وملكه وأحاط به علما واقتدارا، وعلى الوجه الثانى يكون على جهة التخييل كقوله تعالى: يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ
[الفتح: ١٠] وتقرير التخييل، أن الحالة الحاصلة للملك فى الاستقرار والتمكن على تخت مملكته، وسريره، هى حاصلة لله تعالى على عرشه، كما فى قوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ
[المائدة: ٦٤] كما سنقرره فى التخييل ونوضح أمثلته بمعونة الله تعالى.
وأتى بثم، دون الفاء ليدل بها على التراخى، ولأن نظام الآية معها يكون أسلس وأسهل والسبك بها أتم وأعجب، وهذا يذوقه من جاد ذوقه وسلم طبعه عن عجرفة الكلام، وزال عن العنجهانية فى القول.