وكما ورد فى الحديث عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم أنه قال:«المؤمن كالسنبلة، تعوج أحيانا، وتقوم أخرى» أراد بذلك أنه لا يخلو فى تصرفه عن أن يكون مستقيما على الدين فذلك حال الاستقامة، أو يكون مقارفا للذنب، فتلك حالة الاعوجاج وقوله صلّى الله عليه وسلّم «المؤمن كخامة الزرع»«١» أراد أنه غافل عن أكثر المداخل، مشغول بما هو فيه من أمر الدين عن التفطن للأمور كالزرعة بين الزرع الكثيف، فإنه إذا غلظ عليها لم تكن بارزة للريح والشمس فتحصل لها الصلابة، فتراه فى جميع مجاريه لابد من إفادته للبلاغة ومراعاتها فيه.
[المقصد الثانى فى إفادته للإيجاز]
وهذا ظاهر، فإنك إذا قلت زيد كالأسد، فإن الغرض تشبيهه بالأسد فى شهامة النفس، وقوة البطش، وجراءة الإقدام، والقدرة على الافتراس، وغير ذلك من الصفات الفاخرة، فقد استغنيت بذكر لفظ الأسد عن أن تقول: زيد شهم شجاع قوى البطش جرىء الجنان قادر على الاعتداء، فهذا هو الذى نريده بالإيجاز، ومن الاختصار العجيب والإيجاز البليغ فى التشبيه قوله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ
[الكهف: ٤٥] فانظر إلى ما اشتملت عليه هذه الآية من أنواع التشبيهات. أشياء بأشياء فى معان وأوصاف بحيث لو فصلت لا حتاجت إلى شرح، مع اختصاصها بجزالة اللفظ، وبراعة النظم، وبلاغة المعانى وحسن السياق، ومن الإيجاز قول البحترى:
تبسم وقطوب فى ندى ووغى ... كالرعد والبرق تحت العارض البرد
فما هذا حاله من جيد التشبيه وغريبه الموجز غاية فى الإيجاز، وكما قال أبو نواس فى صفة الخمر:
وإذا علاها الماء ألبسها ... حببا شبيه خلاخل الحجل
حتى إذا سكنت جوامحها ... كتبت بمثل أكارع النمل
وكقول أبى نواس فى تشبيه الحبب أيضا:
فإذا ما اعترضته العي ... ن من حيث استدارا
خلته فى جنبات ال ... كأس واوات صغارا
فهذه التشبيهات كلها فى غاية الإيجاز والاختصار كما ترى.