وأنهم لا يبالون معها بأحد، ولا ينال فيهم نيل، وفى تقرير ضمير (هم) اسما، وإسناد المنع والحصون إليهم، دلالة بالغة على تقريرهم فى أنفسهم أنهم فى عزة ومنعة، لا ترمى حوزتهم، ولا يغزون فى عقر دارهم، ولو أخر الخبر لم يعط شيئا من هذه الفوائد، ومن هذا قوله تعالى فى قصة إبراهيم أَراغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ
[مريم: ٤٦] فإنما قدم خبر المبتدأ ولم يقل: أنت راغب، ليدل بذلك على إفراط تعجبه فى الميل عنها، ومبالغة فى الاهتمام بأمرها، وواضعا فى نفسه أن مثل آلهته لا تنبغى الرغبة عنها ولا يصح الإعراض عن عبادتها، ومن رائق ذلك وبديعه قوله تعالى: وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا
[الأنبياء: ٩٧] فإنما قدمه ولم يقل: أبصار الذين كفروا شاخصة، لأمرين: أما أولا فلأنه إنما قدم الضمير فى قوله ليدل به على أنهم مختصون بالشخوص دون غيرهم من سائر أهل المحشر، وأما ثانيا فلأنه إذا قدم الخبر أفاد أن الأبصار مختصة بالشخوص من بين سائر صفاتها من كونها حائرة أو مطموسة أو مزورّة إلى غير ذلك من صفات العذاب، ولو قال: واقترب الوعد الحق فشخصت أبصارهم، لم يعط من هذه الأسرار معنى واحدا، ومن دقيق التقديم وغريبه قوله صلّى الله عليه وسلّم وقد سئل عن التوضؤ بماء البحر فقال مجيبا للسائل:(هو الطهور ماؤه والحل ميتته) وإنما قدم الخبر على المبتدأ فى الأمرين جميعا لغرضين؛ أما أولا فلأن يدفع بذلك إنكار من ينكر الحكمين جميعا؛ جواز التوضؤ وحل ميتته، لأنه ربما يسنح فى النفوس من أجل كونه زعاقا مختصا بالملوحة البالغة فلا يجوز التوضؤ به، وإن كان ميتا فلا يحل أكله لعدم الذكاة فيه، فقدم الخبر من أجل دفع ذلك وإزالته، وأما ثانيا فلأجل التنبيه على الاختصاص بكونه أخص الأمواه بجواز التوضؤ به لصفائه ورقته، وأن ميتته حلال لا يشوبها فى طيب المكسب، وحل التناول شائب، ولو قال فى الجواب: هو الذى ماؤه طاهر، وميتته حلال، نزل عن تلك الرتبة وفاتت عنه المزية.
الصورة الثالثة فى [تقديم الظرف وتأخيره]
اعلم أن الظرف لا يخلو حاله إما أن يكون واردا فى الإثبات، أو يكون واردا فى النفى، فإذا ورد فى الإثبات فتقديمه على عامله إنما يكون لغرض لا يحصل مع تأخيره فلا جرم التزم تقديمه؛ لأن فى تأخيره إبطالا لذلك الغرض، ثم هو على وجهين؛ أحدهما أن يكون