للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

قولنا: زيد شجاع، لا يتخيل منه السامع سوى أنه رجل جرىء فى الحروب، مقدام على الأبطال، وإذا قلنا، زيد أسد، فإنه يتخيل عند ذاك صورة الأسد وهيئته وما هو متصف به من الشجاعة والبطش، والقوة والاستطالة على كل حيوان، واختصاصه بدقّ الفرائس وهضمها، وهذا لا نزاع فيه، ومما يوضح ما ذكرناه هو أن العبارة المجازية تكسب الإنسان عند سماعها هزة وتحرك النشاط، وتمايل الأعطاف، ولأجل ذلك يقدم الجبان، ويسخو البخيل، ويحلم الطائش، ويبذل الكريم نهاية البذل، ويجد المخاطب بها نشوة كنشوة الخمر، حتى إذا قطع ذلك الكلام أفاق من تلك السكرة، وهب من سنة تيك النومة، وندم على ما كان منه من بذل مال، أو ترك عقوبة، أو إقدام على أمر هائل، وهذه هى فائدة سحر لسان الفصيح اللوذعىّ، المستغنى عن إلقاء الحبال والعصىّ، ومصداق هذه المقالة قوله صلّى الله عليه وسلّم: إنّ من البيان لسحرا، يشير به إلى ما قلناه، فهذه هى فائدة المجاز، نعم إذا ورد كلام يكون محتملا للحقيقة والمجاز جميعا فى موارد الشريعة، كان حمله على حقيقته أحق من حمله على مجازه، لأنها هى الأصل، والمجاز فرع، وقد قررنا هذا المأخذ فى الكتب الأصولية، وهمنا ما يتعلق بعلوم البلاغة.

القاعدة الثالثة [مراعاة أحوال التأليف بين الألفاظ المفردة، والجمل المركبة]

يجب مراعاة أحوال التأليف بين الألفاظ المفردة، والجمل المركبة، حتى تكون أجزاء الكلام متلائمة آخذا بعضها بأعناق بعض، وعند ذلك يقوى الارتباط، ويصفو جوهر نظام التأليف، ويصير حاله بمنزلة البناء المحكم المرصوص المتلائم الأجزاء، أو كالعقد من الدر فصلت أسماطه بالجواهر واللآلىء، فخلص على أتم تأليف، وأرشق نظام، ولنضرب فى ذلك مثالين:

المثال الأول فى المدح وهذا كقول البحترى:

بلونا ضرائب من قد مضى ... فما إن رأينا لفتح ضريبا

هو المرء أبدت له الحادثا ... ت عزما وشيكا ورأيا صليبا

تنقّل فى خلقى سؤدد ... سماحا مرجّى وبأسا مهيبا

فكالسيف إن جئته صارخا ... وكالبحر إن جئته مستثيبا «١»

فانظر إلى إجادته فى تأليف هذه الكلمات التى صارت كالأصباغ التى يعمل منها

<<  <  ج: ص:  >  >>