للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

طرفان، أعلى، وهو ما يبلغ به الكلام حد الإعجاز، وأدنى، وهو الذى يقدر فيه أنه إذا أزيل عن نظامه الذى ألف عليه، التحق بالكلام الركيك، فلم تخف عليك غثاثته، وبين هذين الطرفين مزايا ومراتب ودرجات متفاوتة، فإذا عرفت هذا وفكرت فى نظام هذه الآية، وجدتها قد ألفت على أتم تأليف، وأديت على أعجب نظام، ملخصة معانيها، مرصوفة مبانيها، لا يعثر اللسان فى ألفاظها، ولا يغمض على الفكر طلب المراد منها، فإذا خرقت قراطيس الأسماع وجدتها تسابق معانيها ألفاظها، وألفاظها معانيها، لا تحتاج لوضوحها إلى ترجمة، ولا يملّ سامعها وإن تكررت فى كل ساعة وأوان، فهذا ما سنح لى فى هذه الآية من علوم الفصاحة، والبلاغة والعلوم المعنوية، والعلوم البيانية.

[البحث الخامس فى بيان موقعها من علم البديع]

اعلم أن البديع لقب فى هذه الصناعة تعرف به وجوه تحسين الكلام بعد إحرازه لمعانى البلاغة وأنواع الفصاحة، ووضوح دلالته، وجودة مطابقته، ثم إنه على رشاقته ضربان، لفظى، ومعنوى، فالضرب الأول يتعلق بالأمور اللفظية، وهذا نحو التجنيس، وهو أن تكون الألفاظ متشابهة فى الأعجاز والأوزان وغير ذلك، وقد يقع فى المتواطىء كقوله تعالى: وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ

[الروم: ٥٥] وقد يكون فى المشترك كقولهم ما ملأ الراحة، من استوطن الراحة، ومنه التسجيع، وهذا كقوله تعالى:

ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (١٣) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (١٤)

[نوح: ١٣- ١٤] وأكثر القرآن وارد على جهة التسجيع، ومنه رد العجز على الصدر كقوله تعالى: وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ

[الأحزاب: ٣٧] ومنه الموازنة كقوله تعالى: وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦)

[الغاشية: ١٥] ومنه القلب كقوله تعالى: كُلٌّ فِي فَلَكٍ

[الأنبياء: ٣٣] وقوله تعالى: وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣)

[المدثر: ٣] إلى غير ذلك مما يتعلق بأحوال الألفاظ كما ترى.

والضرب الثانى ما يتعلق بالأمور المعنوية، وهو أكثر دورا وأعظم إعجابا فى البلاغة، وهذا نحو الطباق، وهو ذكر النقيضين كقوله تعالى: يُحْيِي وَيُمِيتُ

[البقرة: ٢٥٨] وقوله:

وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ

[الفرقان: ٦٢] وقوله تعالى: وَجَعَلَ الظُّلُماتِ وَالنُّورَ

[الأنعام: ١] والطباق كثير الاستعمال فى كتاب الله تعالى، ومنه اللف والنشر كقوله تعالى:

<<  <  ج: ص:  >  >>