اعلم أن المقصود بما ذكرناه هو بيان أن القرآن فى أعلا طبقات الفصاحة وقد مهّدنا طريقه، وذكرنا أنه حاصل على الوجوه اللائقة بالبلاغة والأسرار المتعلقة بالفصاحة بحيث لا تتصور فى غيره إلا وهى فيه أتم وأخلق، ولا توجد فى غيره إلا وهى فيه أقدم، وأسبق، وما ذاك إلا لأنه لم تصغه أسلات الألسنة، ولا أنضج بنار الفكرة، وإنما هو كلام سماوى ومعجز إلهى، ما زالت رحال الخواطر الذكية معقولة بفنائه لتطّلع على رموزه، وما برحت الأنظار الصافية مأسورة فى رق ملكه لتقع على أدنى جوهر كنوزه، فأبى الله من ذلك إلا ما سمح به للخاصة من أوليائه، والمرموقين بعين المحبة والمودة من أصفيائه، الذين شغلوا أنفسهم، وأتعبوا خواطرهم فى إدراك سرّه وتحقيقه، وتعطشوا لنيل مخزون تلك الأسرار، فسقوا من صفو رحيقه وجهدوا أنفسهم فى إدراكها، وأظمأوا هو اجرهم فى طلبها حتى صاروا أئمة مقصودين، وسادة معدودين: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (٦٩)
[العنكبوت: ٦٩] ونخوض الآن فى الكلام فى إعجاز القرآن بمعونة الله تعالى.