الفصل السادس فى [الإيجاز والحذف، ويقال له: الإشارة]
أيضا، يقال: أوجز فى كلامه، إذا قصره، وكلام وجيز أى قصير، ومعناه فى اصطلاح علماء البيان: هو اندراج المعانى المتكاثرة تحت اللفظ القليل، وأصدق مثال فيه قوله تعالى: فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ
[الحجر: ٩٤] فهاتان الكلمتان قد جمعتا معانى الرسالة كلها، واشتملت على كليات النبوة، وأجزائها، وكقوله تعالى: خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (١٩٩)
[الأعراف: ١٩٩] فهذه الكلمات على قصرها وتقارب أطرافها قد احتوت على جميع مكارم الأخلاق، ومحامد الشيم، وشريف الخصال، وهذا هو المراد بقوله صلّى الله عليه وسلّم:«أوتيت جوامع الكلم» فالكلم جمع كلمة، والجوامع جمع جامعة، كضاربة وضوارب، والغرض بما قاله هو أنه عليه السلام مكن من الألفاظ المختصرة التى تدل على المعانى الغزيرة، وأنت إذا فكرت فى كلامه وجدت جل كلماته جارية هذا المجرى، ولهذا فإن الناظرين فى السنة النبوية الدالة على الأحكام الشرعية، والحكم الأدبية لا تزال المعانى المستخرجة منها غضة طرية على تكرر الأعوام وتطاول الأزمان، ومع ذلك فإنهم ما أحاطوا بغايتها ولا بلغوا نهايتها، وهذا كقوله عليه السلام:«لا ضرر ولا ضرار فى الإسلام» . فإن هذه الكلمة مشتملة على معان شرعية، وآداب حكمية تزيد على الحد وتفوت على العبد، وهكذا قوله صلّى الله عليه وسلّم:«الخراج بالضّمان» فإن تحته أسرارا فقهية، وبدائع علمية، تشتمل عليها كتب الفقه، ومن ثم اتسع نطاق الاجتهاد وعظمت فوائده، فحصل من هذا أن الإيجاز من أعظم قواعد البلاغة، ومن مهمات علومها، ومواقعه فى القرآن أكثر من أن تحصى، فإذا تمهدت هذه القاعدة فاعلم أن جماعة من علماء البيان زعموا أن الكلام قسمان؛ فمنه ما يحسن فيه الإيجاز والاختصار، وهذا نحو الأشعار، والمكاتبات، وأنواع التصانيف فى العلوم والآداب، ومنه ما يحسن فيه التطويل، وهذا نحو الخطب وأنواع الوعظ التى تفعل من أجل العوام فإن الكلام إذا طال أثر ذلك فى قلوبهم، وكانوا أسرع إلى قبوله، واعتلوا بأنه لو اقتصر على الإيجاز والاختصار فإنه لا يقع لأكثرهم نفع، ولا يجدى ذلك فى حقه، وهذا فاسد لا وجه له، فإن الإيجاز الذى لا يخل بمعانى الكلام هو اللائق بالفصاحة والبلاغة وعلى هذا ورد التنزيل، والسنة النبوية، وكلام أمير المؤمنين، وغير ذلك من فصيح كلام العرب، فإنه مبنى على الإيجاز الدال على المعانى الكثيرة بالألفاظ القليلة، وما زعموه من إفهام العامة فإن إفهامهم ليس