[غافر: ٣٨- ٤٠] ألا ترى أنه أبهم الرشاد كيف حاله، ثم أوضحه بعد ذلك بأن افتتح كلامه بذم الدنيا وتحقير شأنها، وتعظيم حال الآخرة والاطلاع على كنه حقيقتها، ثم ذكر الأعمال حسنها وسيئها وعاقبة كل شىء منها، ليرغب فى كل حسنة ويزهد عن كل سيئة، فكأنه قال: سبيل الرشاد ما اشتمل عليه هذا الشرح العظيم المحيط بالترغيب فيما يزلف والانكفاف عما يوهى ويتلف.
ومن السنة الشريفة قوله صلّى الله عليه وسلّم:«ألا أنبئكم بأمرين؛ خفيفة مؤنتهما، عظيم أجرهما، لن يلقى الله بمثلهما» . ثم قال بعد ذلك تفسيرا لهما:«الصمت وحسن الخلق» . وقوله عليه السلام:«ألا أدلكم على ما إذا فعلتموه تحاببتم» ، قالوا: نعم، قال:«أفشوا السلام» ، فانظر إلى تفسير ما أبهم فى هذين الخبرين، ما أعظم ما اشتمل عليه من البلاغة، وفى حديث آخر «ألا أدلكم على أخسر الناس صفقة» قالوا: نعم، قال:«من باع آخرته بدنيا غيره» . ولهذا باب واسع الخطو فى القرآن الكريم والسنة النبوية، فإن أمرهما مبنى على البلاغة، وهذا الباب موقع عظيم فى الدلالة عليها.
ومن كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه:«إنه ليس بين الحق والباطل إلا أربع أصابع» .
فسئل عليه السلام عن معنى قوله هذا، فجمع أصابعه، ووضعها بين أذنيه وعينيه، ثم قال:«الباطل أن تقول سمعت، والحق أن تقول رأيت» فليتأمل المتأمل هذا الإبهام اللطيف الذى يعجز عنه أكثر الخليقة، ولا يدرى بكنهه إلا من رسخت قدمه فى علم البلاغة، ولقد سبق أمير المؤمنين إلى غايتها وما صلّى، وفاز فيها بالنصيب الأوفر والقدح المعلى، وبرز فيها على الأقران، وفاز بالخصل من بين سائر الفرسان.