فانظر إلى هذه المعانى البديعة، وكفى بالمتنبى فضلا إتيانه بها، وإنه لصاحب كل غريبة ومنتهى كل أطروبة فى المعانى الشرعية، ومن ذلك ما قاله فى وصف حاله عند ورود الحمى عليه.
وزائرتى كأن بها حياء ... فليس تزور إلا فى الظلام
بذلت لها المطارف والحشايا ... فعافتها وباتت فى عظامى
كأن الصبح يطردها فتجرى ... مدامعها بأربعة سجام
أراقب وقتها من غير شوق ... مراقبة المشوق المستهام
فانظر إلى ما قاله، ما أشد موافقته لما حكى من حاله، وهذا أكثر ما يجرى على ألسنة أهل البلاغة عند مشاهدة ما يشاهدونه من أحوال الحوادث وفيه كفاية لغرضنا.
[المرتبة الثانية ما يوردونه من غير مشاهدة حال]
فيجرى عليها ولكن يقتضبونه اقتضابا ويخترعونه اختراعا، فمن ذلك قول على بن جبلة يمدح رجلا بالكرم والجود:
تكفل ساكنى الدنيا حميد ... فقد أضحت له الدنيا عيالا
كأن أباه آدم كان أوصى ... إليه أن يعولهم فعالا
قال ابن الأثير وقد حام الشعراء حول هذا المعنى، وفاز على بن جبلة بالإفصاح به، ومن ذلك قول أبى تمام:
يا أيها الملك النائى برؤيته ... وجوده لمراعى جوده كثب
ليس الحجاب بمقص عنك لى أملا ... إن السماء ترجى حين تحتجب
ومن ذلك قوله:
رأينا الجود فيك وما عرضنا ... لسجل منه بعد ولا ذنوب
ولكن دارة القمر استتمت ... فدلتنا على مطر قريب
ومن بليغ كلامه قوله:
وإذا أرد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود
ومن ذلك قوله فى مديحه:
لا تنكروا ضربى له من دونه ... مثلا شرودا فى الندى والباس