ولنورد من ذلك شواهد ما قلنا؟ من ذلك ما أغرب فيه أبو نواس وأبدع حين رأى كأسا من الذهب فيها تصاوير وأمثال، فقال حاكيا لها.
تدار علينا الراح فى عسجدية ... حبتها بأنواع التصاوير فارس
قراراتها كسرى وفى جنباتها ... مها تدريها بالقسى الفوارس
فللراح ما زرت عليه جيوبها ... وللماء ما دارت عليه القلانس
فهذا من المعانى البديعة فإنه أراد أنها مزجت بقليل من الماء حتى صار لقلته بقدر القلانس على رؤوس الكاسات.
قال ابن الأثير وما أعرف ما أقول فى هذا سوى أنى أقول: قد تجاوز أبو نواس حد الإكثار، ومن ذلك ما قاله ابن أبى الشمقمق حين قلد رجل ولاية على الموصل فانكسر لواؤه فتطير بذلك فقال ما قال يقرر خاطره ويؤسيه لما وقع فى نفسه من ذلك وقع عظيم لأجل التطير:
ما كان مندق اللواء بطيره ... نحسن ولا سوء يكون معجلا
لكن هذا العود أضعف متنه ... صغر الولاية فاستقل الموصلا
فلقد أجاد فيما ذكره كل الإجادة وأحسن كل الإحسان، ومن ذلك ما قاله بعض المغاربة فى وصف الخمر فأبدع فيه.
ثقلت زجاجات أتينا فرغا ... حتى إذا ملئت بصرف الراح
خفت فكادت أن تطير بما حوت ... وكذا الجسوم تخف بالأرواح
فهذا معنى بديع عجيب يفعل بالعقول فى الإعجاب كما تفعل الخمر فى الإسكار، فلهذا قاله على ما شاهد من حالها.
ومن ذلك ما قاله أبو الطيب المتنبى وقد صرعت الخيمة بسيف الدولة فوقعت فتطير بذلك فقال فيها قصيدة يذكر ذلك ويقرر نفسه عن الطيرة فمنها قوله:
وإن لها شرفا باذخا ... وإن الخيام بها تخجل
فلا تنكرن لها صرعة ... فمن فرح النفس ما يقتل
وكيف تقوم على راحة ... كأن البحار لها أنمل
فما اعتمد الله تقويضها ... ولكن أشار بما تفعل