من الإرصاد التام، فإن كل كلمة من هذا الكلام مناسبة لما بعدها وملائمة له على أكمل نظام، وأعجب إتمام، فلو وقف على قوله «فإنك ممن استظهر به» لفهم ما بعدها ولو وقف على قوله «وأقمع به» لفهم ما وراءها، لأن الاستظهار تقوية واعتماد، والقمع هو الكف وهو ملائم للنخوة وهو العلو والكبر وهكذا قوله: وَاخْفِضْ
فلو وقف عليه لفهم منه الجناح، لأنه يستعار كثيرا فى لين الجانب كما قال تعالى: وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (٨٨)
[الحجر: ٨٨] وهكذا القول فى سائر ألفاظه، فإنها متلائمة متناسبة يدل بعضها على بعض.
[المثال الرابع ما ورد من كلام أهل البلاغة]
واعلم أن الشعراء المفلقين يفتخرون بما كان أول البيت دالا على آخره، وفى هذا يقول بعضهم:
خذها إذا أنشدت فى القوم من طرب ... صدورها عرفت منها قوافيها
ينسى لها الراكب العجلان حاجته ... ويصبح الحاسد الغضبان يطريها
وهذا هو الإرصاد كما قلناه، ومن جيد الإرصاد ما قاله البحترى:
أحلّت دمى من غير جرم وحرّمت ... بلا سبب يوم اللقاء كلامى
فليس الذى حلّلته بمحلل ... وليس الذى حرّمته بحرام «١»
فليس يذهب على السامع وقد عرف البيت الأول وصدر البيت الثانى أن عجزه ما قاله البحترى، وقد جرت العادة عند إنشاد الشعر بانتهاب عجز البيت من لسان منشده قبل ذكره ويسبق إليه فينشده قبل إنشاده له لما كان المعنى مفهوما قبل ذكره، وهذا هو الذى نريده بالإرصاد ومن هذا قول بعض البلغاء:
ولربما اعتصم الحليم بجاهل ... لا خير فى يمنى بغير يسار
فهذا إذا قرع السامع صدر البيت ووقف على قوله «لا خير فى يمنى» فإنه يتحقق أن لا بد من ذكر اليسار لا محالة، لما فيه من الملائمة له والمناسبة، ومن ذلك ما قاله زهير
وأعلم ما فى اليوم والأمس قبله ... ولكننى عن علم ما فى غد عم «٢»
فالأزمنة ثلاثة، الماضى، والحاضر، والمستقبل، فلما ذكر حكم الماضى، والحاضر،