الاستدراج، استفعال من قولهم: استدرجته إلى كذا إذا نزلته درجة درجة حتى تستدعيه إليك وينقاد لما قلته من ذلك، قال الله تعالى: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (٤٤)
[القلم: ٤٤] فالاستدراج لهم إنما هو بإعطاء الصحة والنعمة والإمهال ليزدادوا فى الكفر والفسوق، وهذا اللقب إنما يطلق على بعض أساليب الكلام، وهو ما يكون موضوعا لتقريب المخاطب والتلطف به والاحتيال عليه بالإذعان إلى المقصود منه ومساعدته له بالقول الرقيق والعبارة الرشيقة، كما يحتال على خصمه عند الجدال والمناظرة بأنواع الإلزامات، والانتماء إليه بفنون الإفحامات، ليكون مسرعا إلى قبول المسألة والعمل عليها، وكمن يتلطف فى اقتناص الصيد فإنه يعمل فى الحبالة كل حيلة ليكون ذلك سبيلا إلى ما يقصده من الاصطياد، فهكذا ما نحن فيه، إذا أراد تحصيل مقصد من المقاصد فإنه يحتال بإيراد ألطف القول وأحسنه، فما هذا حاله من الكلام يقال له الاستدراج، ولنضرب له أمثلة بمعونة الله تعالى.
[غافر: ٢٨] فانظر إلى حسن مأخذ هذا الكلام، وما تضمنه من النزول فى الملاطفة، فصدر الكلام بالإنكار عليهم فى قتله واستقباحه، لأمرين: أما أولا فلأنه قائل بالتوحيد لله تعالى، وأما ثانيا فلأنه قد جاءكم بالمعجزات الواضحة فى هدايتكم إلى الخير، فمن هذه حاله كيف يقدم على قتله، هذا مما لا يتسع له العقل ولا يقبله، ثم أخذ بعد ذلك فى الاحتجاج عليهم على جهة التقسيم فقال: ليس يخلو حاله إما أن يكون كاذبا فضر كذبه يعود عليه، وأنتم خالصون عنه، وإن يك صادقا يصبكم بعض الذى يعدكم إن تعرضتم لقتله، وفى سياق هذا الكلام من الملاطفة وحسن الأدب وكمال الإنصاف ما يربو على كل غاية، وبيانه من أوجه: أما أولا فلأنه صدر الكلام بكونه كاذبا على جهة التقدير ملاطفة واستنزالا للخصم عن نخوة