، فمن ذلك أنه خرج يوما وهو محتضن لأحد الحسنين فقال لهما:«إنكما لمن ريحان الله، وإن آخر وطأة وطئها الله بوجّ» فهذا الكلام وأمثاله أورده على جهة التعريض لغيره، وأقامه مقامه. فوضع قوله:«إنكما من ريحان الله» موضع الرحمة بهما والشفقة والحنو والعطف عليهما، وإعظام المنزلة عنده لهما، فعرض به عن ذلك، ثم وضع قوله «وإن آخر وطأة وطئها الله بوج» ، موضع النعى لنفسه والتعزية لها بكونه قد قربت وفاته، ووجه التعريض، هو أن وجا موضع بالطائف، وأراد به غزاة حنين، لأنها آخر غزوة وقع فيها القتال مع المشركين، فأما غزوة تبوك، والطائف، اللتان كانتا بعدها فلم يكن فيهما قتال، وإنما كان خروج من غير ملاقاة للحرب، فكل هذا الكلام تعريض بقرب وفاته وتأسف على مفارقة أولاده، لأن غزوة حنين كانت فى شوال سنة ثمان، ووفاته كانت فى ربيع الأول من سنة إحدى عشرة فكأنه قال: إنكما لمن رزق الله الذى يستراح به، وتقر به النفس، وإنى مفارقكم عن قريب، فانظر إلى هذا التعريض، ما أحسن مغزاه وأدق فى البلاغة مجراه، وكم فى السنة النبوية من هذه اللطائف العجيبة، والأسرار الدقيقة والرموز الخفية.
[الضرب الثالث كلام أمير المؤمنين كرم الله وجهه]
، قال فى كلام يخاطب به زياد ابن أبيه، وكان عاملا لعامله عبد الله بن عباس على فارس وكرمان، وكور الأهواز:«وإنى أقسم بالله قسما صادقا لئن بلغنى أنك خنت من فىء المسلمين شيئا صغيرا أو كبيرا لأشدن عليك شدة، تدعك قليل الوفر، ثقيل الظهر، ضئيل الأمر، والسلام» . فهذا كما يحتمل أن يكون على ظاهره فإنه يحتمل أيضا أن يكون قد أخرجه مخرج التعريض فيما كان منه من الانتساب إلى أبى سفيان وتهديدا له على ذلك، فأوقعه موقعه، وقوله عليه السلام:«أيها الناس سلونى قبل أن تفقدونى فلأنا بطرق السماء أعلم منى بطرق الأرض قبل أن نشغر برجلها فتنة تطأ فى خطامها، وتذهب بأحلام قومها» فكما يمكن حمل هذا على ظاهره وهو السابق إلى الأفهام منه، يمكن أيضا أن يكون أورده مورد التعريض تهكما بأصحابه، وانتقاصا