[المقدمة الرابعة فى ذكر مفهوم الفصاحة والبلاغة وبيان التفرقة بينهما]
اعلم أنّ هذا الباب من أجل علوم البيان وأعلاها، وأرسخ قواعده وأسماها، وفيه تتفاوت القيم، وتتفاضل الهمم، والذى يتعلق بغرضنا منها هو الكلام فيما يتعلق بالبلاغة على الخصوص، وفيما يتعلق بالفصاحة على الخصوص، ثم نذكر التفرقة بينهما فهذه مطالب ثلاثة.
المطلب الأول فى بيان ما يتعلق ب [الفصاحة] على الخصوص
الفصاحة فى اللغة عبارة عن البيان والظهور، يقال أفصح العجمى إذا خلص كلامه عن اللكنة واللحن، وأفصح اللبن، إذا ذهب عنه اللباء وزالت عنه الرغوة، وأفصحت الشاة، إذا صفا لبنها عمّا يشوبه، وأفصح الصبح إذا ظهر وعلا ضوؤه، وفيه المثل «أفصح الصبح لذى عينين» .
وفى مصطلح علم البيان خلوص اللفظ عن التعقيد فى تركيب الأحرف والألفاظ جميعا، فمتى سلمت اللفظة الواحدة عن تنافر تركيبها ولم تكن من قبيل قولنا: عقجق، ولا من قولهم:«الهعخع» وهو شجر. وسلم تركيب الألفاظ عن التنافر أيضا كما قيل:
«ليس قرب قبر حرب قبر»«١»
لأن التنافر فى الأول إنما كان من أجل تقارب مخارج تلك الأحرف، وحصل التنافر فى الثانى من جهة تركيب الألفاظ المتقاربة، فحصل من أجل ذلك عثار فى اللسان، وتوعر فى المخارج، فلأجل ذلك كان متنافرا فالألفاظ فى سهولة تركيبها وعثورته وسلاسته ووعورته بمنزلة الأصوات فى طنينها ولذة سماعها، ولهذا فإنه يستلذ بصوت «القمرىّ» ويكره صوت «الغراب» ويستظرف صهيل «الفرس» ويستنكر نهيق «الحمار» فإذا تمهدت هذه القاعدة فاعلم أن مقصودنا من الفصاحة يحصل بالبحث عن أسرارها.