فإنه إنما اختار وصفها بالقسى مع أن هذا المعنى يحصل بتشبيهها بالعراجين والأخلة والأطناب وغير ذلك، لكنه اختار القسى لما أراد ذكر الأسهم والأوتار، فيحصل بذكر القسى ملائمة لا تحصل بذكر غيره فلهذا آثره، ولقد أحسن فيه لما اشتمل عليه من حسن التأليف وجودة النظم ومراعاة المناسبة فيما ذكره وكما قال المتنبى:
على سابح موج المنايا بنحره ... غداة كأن النّبل فى صدره وبل «١»
فالسابح، الحصان، فلما وصفه بالسباحة عقبه بذكر الموج، وذكر النبل، وعقبه بذكر الوبل لما كان يشبه النبل فى شدة وقعه وسرعة حركته، ثم واصل بين الوبل والموج لما بينهما من الملائمة، وأحسن من هذا ما قاله ابن رشيق من شعره:
أصحّ وأقوى ما رويناه فى الندى ... من الخبر المأثور منذ قديم
أحاديث ترويها السيول عن الحيا ... عن البحر عن جود الأمير تميم «٢»
فلاءم بين الصحة والقوة، وبين الرواية والخبر، لأنها كلها متقاربة فى ألفاظها، ثم قوله أحاديث، تقارب الأخبار ثم أردفها بقوله السيول، ثم عقّبه بالحيا، لأن السيول منه، ثم عن البحر، لأنه يقرب من السيل، ثم تابع بعد ذلك بقوله «عن جود الأمير تميم» فهذه الأمور كلها متقاربة، فلأجل هذا لاءم بينها فى تأليف الألفاظ، فصار الكلام بها مؤتلف النسج محكم السّدى.
[الوجه الثالث ائتلاف المعنى مع المعنى]
وهو أن يكون الكلام مشتملا على أمرين فيقرن بكل واحد منهما ما يلائمه من حيث كان لاقترانه به مزية غير خافية ومثاله ما قاله المتنبى فى السيفيّات:
تمرّ بك الأبطال كلمى هزيمة ... ووجهك وضّاح وثغرك باسم
وقفت وما فى الموت شكّ لواقف ... كأنك فى جفن الرّدى وهو نائم «٣»
فإن عجز كل واحد من البيتين ملائم لكل واحد من صدريهما وصالح لأن يؤلّف معه، لكنه اختار ما أورده فى البيت لأمرين، أما أولا فلأن قوله «كأنك فى جفن الردى وهو نائم» إنما سيق من أجل التمثيل للسلامة فى موضع العطب فجعله مقرّرا للوقوف