والبقاء فى موضع يقطع على صاحبه بالموت أحسن من جعله مقرّرا لثباته فى حال هزيمة الأبطال، وأما ثانيا فلأن جعل قوله «ووجهك وضاح وثغرك باسم» تتمة لقوله «تمر بك الأبطال» أحسن من جعله تتمة لقوله «وقفت وما فى الموت شك لواقف» لأن الإنسان فى حال الهزيمة يلحقه من ضيق النفس وعبوس الوجه ما لا يخفى، فلهذا ألصق كل واحد منهما بما يكون فيه ملاءمة وحسن انتظام من أجل المبالغة فى المعانى، ويحكى أنه لما أنشد سيف الدولة هذه القصيدة نقم عليه هذين البيتين، قال هلا جعلت عجز أحدهما عجزا للآخر فأجابه بما ذكرناه من بلاغة المعنى إذا كان على هذه الصفة، فاستحسن سيف الدولة ما قاله من ملاحظة المعانى التى هى مغازيه فى قصائده وزاد فى عطيته، ومن هذا قوله تعالى: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها وَلا تَعْرى (١١٨) وَأَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَلا تَضْحى (١١٩)
[طه: ١١٨- ١١٩] ولم يقل فإنك لا تجوع فيها ولا تظمى، وأنك لا تعرى فيها ولا تضحى، فإنه لم يراع ملاءمة الرى للشبع، ولا أراد مناسبة الاستظلال للضّحا، وإنما أراد مناسبة أدخل من ذلك، فقرن الجوع بالعرى لما للإنسان فيهما من مزيد المشقة وعظيم الألم بملابستهما، وأراد مناسبة الاستظلال للرىّ، فقرن بينهما لما فى ذلك من مزية الامتنان، وإكماله، ووجه آخر وهو أن الجوع يلحق منه ألم فى باطن الإنسان وتلتهب منه أحشاؤه، والعرى يلحق منه ألم فى ظاهر جسد الإنسان فلهذا جمع بينهما لما كان أحدهما يتعلق بالظاهر والآخر يتعلق بالباطن، وهكذا حال الظمأ فإنه يحرق كبد الإنسان ويوقد فى فؤاده النار، والضّحا يحرق جسده الظاهر فلأجل هذا ضمّ كل واحد منهما إلى ما له به تعلق لتحصل المناسبة، ومن جيد ما يورد مثالا ههنا ما ذكره المتنبى فى السيفيات:
فالعرب منه مع الكدرىّ طائرة ... والروم طائرة منه مع الحجل «١»
يصف انهزام الناس من خوفه وشدة سطوته، فالكدرىّ والحجل طائران، لكن الكدرىّ أكثر ما يكون فى الصحارى والقفار والمفازات، فضمه مع العرب، لأن أكثر ما يسكنون هذه المواضع، وضم الحجل إلى الروم، لأنها أكثر ما تأوى إلى الأمواه وشطوط الأنهار، وبلاد الروم فيها الأنهار الكثيرة، فلأجل هذه المناسبة والتزامها ضم كل واحد إلى ما يليق به ويناسبه بعض مناسبة، وقوله «طائرة» فيه وجهان، أحدهما أن يريد أنها كالطير فى سرعة هربها وخفّة جريها فرقا منه وخوفا من بأسه، وثانيهما أن يريد أنها متفرقة فى