المعانى حيث عولوا فى أودية البلاغة، وأحكام الفصاحة، بعد كلام الله تعالى وكلام رسوله، على دواوين العرب، وكلماتهم فى خطبهم، وأمثالهم، وأعرضوا عن كلامه، مع علمهم بأنه الغاية التى لا رتبة فوقها، ومنتهى كل مطلب، وغاية كل مقصد فى جميع ما يطلبونه من الاستعارة، والتمثيل والكناية، وغير ذلك من المجازات الرشيقة، والمعانى الدقيقة اللطيفة، ولقد أثر عن فارس البلاغة وأميرها أبى عثمان الجاحظ أنه قال: ما قرع مسامعى كلام بعد كلام الله، وكلام رسوله إلا عارضته إلا كلمات لأمير المؤمنين كرم الله وجهه فما قدرت على معارضتها، وهى قوله عليه السلام «ما هلك أمرؤ عرف قدره، وقوله: من عرف نفسه عرف ربه، وقوله: المرء عدو ما جهل، ومثل قوله: استغن عمن شئت، تكن نظيره، وأحسن إلى من شئت تكن أميره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره.
فانظر إلى إنصاف الجاحظ فيما قاله، وما ذاك إلا أنه خرق قرطاس سمعه ببلاغته، وحير فهمه لما اشتمل عليه من إعجازه وفصاحته، فإذا كان هذا حال الجاحظ وله فى البلاغة اليد البيضاء فكيف حال غيره.
[المثال الثانى فى الحكم والآداب]
وله عليه السلام فى الكلمات القصيرة فى الحكم النافعة، وآداب النفوس، ما لم يبلغ أحد شأوه، ولا تحوم حوله كقوله: «قيمة كل امرىء ما يحسن» فهذه اللفظة لا يوازيها حكمة، ولا تقوم لها حكمة، وقوله:«المرء مخبوء تحت لسانه» وقوله: «السعيد من وعظ بغيره، والمغبوط من سلم له دينه» وقوله: «من أرخى عنان أمله، عثر بأجله» وقوله: «من فكر فى العواقب لم يشجع» وقوله: «مصارع العقول تحت بروق الأطماع» وقوله: «بالبر يستعبد الحر» وقال عليه السلام: «الطمع رق مؤبد» وقوله: «التفريط ثمرته الندامة، وثمرة الحزم السلامة» وقوله: «آلة الرياسة سعة الصدر» وقوله: «من استقبل وجوه الآراء، عرف وجوه الخطاء» وقوله: «من أحدّ سنان الغضب لله، قوى على قتل أسد الباطل» وقال: «إذا هبت أمرا فقع فيه، فإن وقوعك فيه أهون من توقيه» وقال: «كم من عقل استتر تحت هوى أمير» وقال «كل وعاء يضيق بما جعل فيه إلا وعاء العلم فإنه يتسع» وقال: «أول عوض الحليم من حلمه أن الناس أنصاره على الجاهل» وقال: «من كان الحياء ثوبه لم ير الناس عيبه» وقال: «بالإفضال تعظم الأقدار، وباحتمال المؤن يجب السؤدد، إلى غير ذلك من قصير الكلام الذى قصر فى ألفاظه، وطال فى معناه، وأوجز فى عباراته وكثر مغزاه.