وأمّا ثالثا: فربمّا كانت اللفظة المجازية جارية على الأقيسة الصحيحة فى تصريفها في بيانها، والحقيقة منحرفة عن ذلك فلهذا عدل إلى استعمال اللفظة المجازية من أجل ذلك.
[المقصد الثانى ما يرجع إلى المعنى على الخصوص]
وذلك من أوجه، أمّا أولا: فلأجل التعظيم كما يقال: سلام على الحضرة العالية والمجلس الكريم، فيعدل عن اللقب الصريح إلى المجاز تعظيما لحال المخاطب، وتشريفا لذكر اسمه عن أن يخاطب بلقبه فيقال: سلام على فلان.
وأمّا ثانيا: فلأجل التحقير كما يعبر عن قضاء الوطر من النساء بالوطء وعن الاستطابة بالغائط ويترك لفظ الحقيقة استحقارا له، وتنزّها عن التلفظ به لما فيه من البشاعة والغلظ وقد نزّه تعالى كتابه الكريم وخطابه الشريف عن مثل هذه الأمور، وعدل إلى المجازات الرشيقة لما ذكرناه فقال: أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ
[النساء: ٤٣] كناية عن الوطء وقال تعالى:
كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ
[المائدة: ٤٣] كنى به عن قضاء الحاجة لما فى لفظ الحقيقة من الرّكّة والسماجة.
وأما ثالثا: فلأجل تقوية حال المذكور فإذا قلت رأيت أسدا كان أقوى من قولك رأيت رجلا يشبه الأسد كما سنورد الفرق بين الاستعارة والتشبيه، فلا جرم عدل إلى المجاز لمكان هذه القوة.
وأمّا رابعا: فلما يحصل فى المجاز من التوكيد بخلاف الحقيقة، فأنت إذا قلت: رأيت أسدا فى سلاحه، وبحرا فى برديه، كان أكثر تأكيدا ووقعا فى النفوس من قولك: رأيت رجلا كريما أو شجاعا لما يحصل فى ذلك من المكانة والمبالغة بذكر المجاز دون الحقيقة.
[المقصد الثالث ما يرجع إلى اللفظ والمعنى جميعا]
لما يحصل فى المجاز من تلطيف الكلام وحسن الرشاقة فيه، وتقرير ذلك هو أن النفس إذا وقفت على كلام غير تامّ بالمقصود منه تشوقت إلى كماله فلو وقفت على تمام المقصود منه لم يبق لها هناك تشوّق أصلا، لأن تحصيل الحاصل محال، وإن لم تقف على شىء منه فلا شوق لها هناك، فأما إذا عرفته من بعض الوجوه دون بعض فإن القدر المعلوم يحصل شوقا إلى ما ليس بمعلوم، فإذا عرفت هذا فنقول: إذا عبّر عن المعنى باللفظ الدال على الحقيقة حصل كمال العلم به من جميع وجوهه، وإذا عبّر عنه