لقد صبرت فى الذل أعواد منبر ... تقوم عليها فى يديك قضيب «١»
فهذا ذم لم يرتكب فيه شططا، ولا رام فيه فرطا بل وصفها بالذل لكونها حاملة له، لأن من هوانها كونه راكبا لها عاليا عليها، فهذا تقرير الأمثلة فيما جرى من الكلام على جهة الاقتصاد.
المرتبة الثانية فيما يجرى على جهة [التفريط]
فيورد على جهة التقصير فى المعبر عنه، والتضييع والإهمال له، فمن ذلك ما قاله الفرزدق:
ألا ليتنا كنا بعيرين لا نرد ... على حاضر إلا نشلّ ونقذف
كلانا به عرّ يخاف قرافه ... على الناس مطلى المساعر أخشف «٢»
فما هذا حاله من جملة التفريط لكونه من جملة الأمنيات النازلة، والمقاصد السخيفة، التى لا ثمرة لها ولا جدوى عندها، فإن حاصل ما قال فى هذين البيتين أنه قصر أمنيته على أن يكون هو ومحبوبه، كبعيرين أجربين لا يقربهما أحد، ولا يقربان أحدا، إلا طردهما، نفارا منهما، وعيفة لمقاربتهما، لما فيهما من العر، وهو داء يصيب الإبل فى مشافرها، والأخشف بالخاء والشين المعجمتين. البعير الذى يجترىء على المسير بالليل، والقراف: المداناة والقرب، وغرضه من ذلك كله البعد عن الناس بمنزلة من به داء عظيم يتأفف منه ويبعد عنه، ولقد كان له مندوحة عن مثل هذه الأمانى السخيفة البعيدة، فأين هذا من قول من قال فى الأمانى الرقيقة، والطرائف الرشيقة:
يارب إن قدّرته لمقبّل ... غيرى فللمسواك أو للأكؤس
وإذا حكمت لنا بعين مراقب ... فى الدهر فلتك من عيون النرجس
فانظر ما بين الأمنيتين من التفاوت العظيم ومن أمثلة التفريط ما قاله أبو تمام يمدح رجلا:
يتقى الحرب منه حين تغلى ... مراجلها بشيطان رجيم «٣»