لا يتقشع ربابه، فمن معنى كلامه ارتوى كل مصقع خطيب، وعلى منواله نسج كل واعظ بليغ، إذا كان عليه السلام مشرع الفصاحة وموردها، ومحط البلاغة ومولدها، وهيدب مزنها الساكب ومتفجّر ودقها الهاطل» .
وعن هذا قال أمير المؤمنين فى بعض كلامه:«نحن أمراء الكلام، وفينا تشبثت عروقه، وعلينا تهدلت أغصانه» . ولنورد من كلامه أمثلة ثلاثة على مثال ما أوردناه من السنة النبوية، والقرآن الكريم، لأن كلامه عليه مسحة وطلاوة من الكلام الإلهى، وفيه عبقة ونفحة من الكلام النبوى.
[المثال الأول فى الخطب والمواعظ]
ولقد أتى فى توحيد الله وتنزيهه عن مشابهة الممكنات، وبعده عن مماثلة المكونات، بكلام ما سبقه إليه سابق، ولا أتى بما يدانيه من تأخر بعده من تابع ولا لاحق، فمن ذلك كلامه فى ابتداء الخلق بعد ثنائه على الله بما هو أهله قال فيها: «فطر الخلائق بقدرته، ودبرها بحكمته، ونشر الرياح برحمته، ووتد بالصخور ميدان أرضه، ثم قال:
أول الدين معرفته، وكمال معرفته توحيده، وكمال توحيده التصديق به، وكمال التصديق به الإخلاص له، وكمال الإخلاص له نفى الصفات عنه- يريد الصفات التى لا تليق بذاته- فمن وصف الله تعالى فقد قرنه، ومن قرنه فقد ثناه، ومن ثناه فقد جزأه ومن جزأه فقد جهله، ومن أشار إليه فقد حده، ومن حده فقد عده، ومن قال (فيم) فقد ضمنه، ومن قال (علام) فقد أخلى عنه، كائن لا عن حدث، موجود لا عن عدم» . إلى غير ذلك فى أثناء هذه الخطبة من التوحيد البالغ، والتنزيه الكامل، وقد أشرنا إلى هذه الأسرار فى التوحيد فى شرحنا لكلامه فى نهج البلاغة، وأظهرنا مراداته فى هذه الإشارات الإلهية والرموز المعنوية، فمن أرادها فليطالعها منه، وهذه الخطبة من جلائل خطبه، لما اشتملت عليه من بالغ التوحيد، وذكر أحوال المخلوقات من خلق السماء والأرض والملائكة، وخلق آدم، وما كان من إبليس فى حقه، ومن عرف كلام الفصحاء فى منظومهم، ومنثورهم، ومقامات البلغاء فى خطبهم ومواعظهم بعده عليه السلام إلى يومنا هذا غير كلام الله وكلام رسوله، علم قطعا لا شك فيه أنهم قد أسفوا «١» فى البلاغة وحلّق، وقصروا فى الفصاحة وسبق، والعجب من علماء البيان والجماهير من حذاق