معانيه، ولست أدرى علام أحمل إعراضهم عنه؟ فإن كان جهلا بأمره، فقدرهم أعلا من أن يجهلوا مثل ذلك، وهم الغواصون على جواهر البلاغة، والمتبحرون فى علومها، وإن كان استغناء عنه بغيره فهيهات هيهات، أين الغرب من النبع، والحصا من العقيان، وعقود الياقوت، من خرز المرجان، وشتان ما بين ظهور السها ونور الفرقد، ومتى ظهر نور الشمس انسلخ الظلام وزال الليس.
[النوع الرابع فى الاستعارة الواردة عن البلغاء وأهل الفصاحة]
اعلم أنا نذكر ههنا ما ورد من الاستعارات الفائقة عمن يوصف بالبلاغة، ونذكر ما يوازنه من كلام أمير المؤمنين، كرم الله وجهه، ليتحقق الناظر تفاوت ما بين الكلامين، وليعرف مصداق ما ادعيناه فى حقه من أنه قد صار ابنا لبجدتها وأبا لعذرتها.
فمن ذلك ما روى عن الحجاج عند قدومه العراق أنه قال: إن أمير المؤمنين عبد الملك ابن مروان نثل كنانته وعجمها عودا عودا، فرآنى أصلها نجارا، وأبعدها نصلا.
فقوله: نثل كنانته وعجمها عودا عودا، يريد أنه عرض رجاله واحدا واحدا، واختبرهم رجلا رجلا، فرآنى أشدهم وأمضاهم، فهذا من الاستعارات الفائقة.
ولنذكر من كلام أمير المؤمنين ما هو أرق وألطف فى الاستعارة من هذا، وهذا نحو قوله يخاطب به معاوية، فكيف أنت إذا انكشف عنك جلابيب ما أنت فيه من دنيا قد تبهجت بزينتها، وخدعت بلذتها، دعتك فأجبتها، وقادتك فاتبعتها، وأمرتك فأطعتها، وإنه يوشك أن يقفك واقف على ما لا ينجيك منه منج، فاقعس عن هذا الأمر، وخذ أهبة الحساب، وشمر لما قد نزل بك، فإنك مترف قد أخذ الشيطان منك مأخذه، وبلغ فيك أمله، وجرى منك مجرى الروح والدم.
فليمعن الناظر نظره فيما بين الكلامين من التفاوت فى لطيف الاستعارة منهما، فإنه يجد بينهما بونا بعيدا، وغاية غير مدركة بالحصر.
ومن ذلك ما قاله بعض الفصحاء فى وصف ولدين لرجل كان مغرما بحبهما قال: وقد هويت بدرين على غصنين، ولا طاقة لقلب بهوى واحد، فكيف إذا حمل هوى اثنين، ومما شجانى أنهما يتلونان فى أصباغ الثياب، كما يتلونان فى فنون التجرم والعتاب، وكان