أحدهما قد لبس قباء أحمر، والآخر لبس قباء أسود، فقال: واصفا لهما، وقد استجدا الآن زيا لا مزيد على حسنهما فى حسنه، فهذا يخرج فى ثوب من حمرة خده، وهذا فى ثوب من سواد جفنه.
ولنذكر من كلام أمير المؤمنين ما يفوق عليه ويزيد فى الاستعارة الرائقة، والمقاصد الفائقة، من ذلك قوله فى صفة خلقة الطاووس قال فيه: إذا نشر جناحه من طيه وسما به مطلا على رأسه قلت قلع دارىّ عنجه نوتيه، تخال قصبه مدارى من فضة وما أنبت عليه من عجيب داراته وشموسه خالص العقيان وفلز الزبرجد فإن شبهته بما أنبتت الأرض قلت جنىّ جنى من زهرة كل ربيع، وإن شاكلته بالحلى فهو فصوص ذات ألوان، قد نطقت باللجين المكلل، وإن ضاهيته بالملابس قلت موشى الحلل، أو مونق عصب اليمن، وإذا تصفحت شعرة من شعرات قصبه، أرتك حمرة وردية، وتارة خضرة زبرجدية، وأحيانا صفرة عسجدية.
فانظر أيها الواقف مقدار ما بين الكلامين من التفاوت فى مأخذهما فى الاستعارة، وميز ما اشتمل عليه من الرقة واللطافة والرونق والرشاقة، فليس العلم كالحسبان، ولا يكون الخبر كالعيان.
ومن ذلك ما قاله بعض الفصحاء فى وصف المطر، أقبل عارض مسف، متراكم غير شف، كالقاصد إلى الرقاق، والمخضل للأنفاق، فأرخى الغمام عزاليه. واثعنجر بصوب ما فيه. فالتقى الماء على أمر قد قدر، وتعقد منه الثرى وودأت منه العذر، وتهدمت القرى. وقال أمير المؤمنين كرم الله وجهه عند الاستسقاء: وانشر علينا رحمتك بالسحاب المنبعق، والربيع المغدق، والنبات المونق سحا وابلا، تحيى به ما قد مات وترد به ما قد فات، وأنزل علينا سماء مخضلة مدرارا هاطلة يدافع الودق منها الودق، ويحفز القطر منها القطر، غير خلب برقها ولا جهام عارضها، ولا قزع ربابها، ولا شفان ذهابها، تنعش بها الضعيف من عبادك، وتحيى بها الميت من بلادك، فهذا معنى واحد قد اتفقا على وصفه فانظر ما بين الوصفين وتأمل ما بين الكلامين، كيف بالغ فأحسن، واستعار فأجاد، ولنقتصر على هذا القدر ففيه كفاية فى الاعتراف له بالتقدم والسبق ممن لم يتضمخ برذائل الحسد، ولا ينبض فيه عرق العصبية، حيث خصه الله بالخصال الشريفة والفضائل الجمة.