قال فيه: ثم جمع من حزن الأرض وسهلها، وعذبها وسبخها، تربة سنّها بالماء حتى خلصت، ولاطها بالبلة حتى لزبت، فجبل منها صورة ذات أحناء ووصول، وأعضاء وفصول، أجمدها حتى استمسكت، وأصلدها حتى صلصلت، لوقت معدود، وأمد معلوم، ثم نفخ فيها من روحه فمثلت إنسانا ذا أذهان يجيلها، وفكر يتصرف بها وجوارح يستخدمها، وأدوات يقلبها، ومعرفة يفرق بها بين الحق والباطل، والأذواق، والمشام، والألوان، والأجناس، معجونا بطينة الأكوان المختلفة، والأشباه المؤتلفة، والأضداد المتعادية، والأخلاط المتباينة، من الحر والبرد، والبلة والجمود، والمساءة والسرور، واستأدى الله سبحانه الملائكة وديعته لديهم، وعهد وصيته إليهم فى الإذعان بالسجود له، والخشوع لتكرمته، فقال سبحانه اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ
[البقرة: ٣٤] ثم أسكنه دارا أرغد فيها عيشه، وأقر فيها محلته، فهذا كلام من أخذ البلاغة بزمامها وكان هو المدعو بصاحبها وإمامها، لا يقصر عن بلوغ شأوها ولا يصعب عليه نخوة بأوها.
[النكتة الثامنة فى ذكر إبليس وإغوائه لآدم]
قال: ثم ٧ ن إبليس اعترته الحمية، وغلبت عليه الشقوة وتعزز بخلقة النار، واستوهن خلق الصلصال، فأعطاه الله النّظرة استحقاقا للسخطة، واستتماما للبلية، وإنجازا للعدة فقال فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (٨٠) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (٨١)
[سورة ص: ٨٠- ٨١] فلما أسكنه جنته، وحذره إبليس وعداوته، فاغتره إبليس نفاسة عليه بدار المقام، ومرافقة الأبرار، فباع اليقين بشكه، والعزيمة بوهنه، واستبدل بالجذل وجلا، وبالاغترار ندما، ثم بسط الله سبحانه له فى توبته، ولقاه كلمة رحمته ووعده المرد إلى جنته، وأهبطه إلى دار البلية وتناسل الذرية.
[النكتة التاسعة يذكر فيها بعثة الأنبياء]
قال: ثم إنه تعالى اصطفى من ذريته يعنى آدم أنبياء أخذ على الوحى ميثاقهم، وعلى تبليغ الرسالة أمانتهم، لما بدل أكثر خلقه عهد الله إليهم، فجهلوا حقه، واتخذوا الأنداد معه واجتالهم الشياطين عن معرفته، واقتطعتهم عن عبادته، فبعث