[النور: ٣٥] فانظر إلى تعديد هذه الجمل ومجيئها من غير حرف عطف، كيف أفادت المبالغة فى حال الموصوف، وأشادت من قدره ورفعت من حاله، وأبانت المقصود على أحسن هيئة، وكقوله تعالى: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها
[النور: ٤٠] فتأمل هذه الأوصاف فى نعت النور والظلمة، كيف أصابت المجزّ، وطبّقت المفصل فى تحصيل المقصود وإظهار المبالغة فيه كما ترى.
[الطريق الثالثة إتمام الكلام بما يوجب حصول المبالغة فيه وإكماله به]
وهذا كقول من قال يمدح نفسه وقومه:
ونكرم جارنا ما دام فينا ... ونتبعه الكرامة حيث كانا «١»
فإنه لم يكتف بما صدّره فى أول البيت من مقدار ما هو عليه وقومه من الإحسان إلى الجار والقيام بحقه وبذل الجهد فى المعروف إليه، حتى شفعه بقوله «ونتبعه الكرامة حيث كانا» مشتملا على زيادتين، الزيادة الأولى لحوق الكرامة له من الإتحاف والإلطاف وكثرة الإحسان والتبجيل والتعظيم، والزيادة الثانية قوله «حيث كانا» وأراد به حيث يسير من سائر الجهات من برّ أو بحر أو سهل أو جبل، فحصول هاتين الزيادتين قد اشتمل على المبالغة فيما ذكرناه، وكقول أبى تمام فى صفة الفرس ومدحه بصبره وتجلده على الجرى:
وأصرع أىّ الوحش قفّيته به ... وأنزل عنه مثله حين أركب»
فلما مدحه بأنه يلحق كل وحش عليه ولم يستثن شيئا من ذلك عقبه بأعظم منه مدحا وأكثر مبالغة بقوله «وأنزل عنه مثله حين أركب» فى جموم جريه وكثرة نشاطه، أو أنه لا يعرق مع كثرة جريه لمزيد القوة وشدة صلابته.