للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[الصنف التاسع عشر التجاهل]

اعلم أن هذه الصيغة أعنى «تفاعل» موضوعة على أن تريك الفاعل على صفة ليس هو عليها، وهذا كقولك لغيرك تضارر وما به ضرر، وتعامى عن الحق وما به عمى، وتجاهل وما به جهل، هذا ما تفيده باعتبار وضعها، والتجاهل مصدر تجاهل، فالتجاهل يعطى ما يعطيه قولنا تجاهل، وهو ما ذكرناه، وأما وضعه فى اصطلاح علماء البيان، فهو منقول إلى فن من فنون البديع، وهو أن تسأل عن شىء تعلمه موهما أنك لا تعرفه وأنه مما خالجك فيه الشك والريبة وشبهة عرضت بين المذكورين، وهو مقصد من مقاصد الاستعارة، يبلغ به الكلام الذروة العليا، ويحله فى الفصاحة المحل الأعلى، ومثاله قول بعض الشعراء:

أياظبية الوعساء بين جلاجل ... وبين النّقا آنت أم أمّ سالم

فانظر إلى عمله فى هذا البيت كيف جهل نفسه وأنزلها منزلة غبى لا يفرق بين أم سالم وبين الظبية الوحشية فى الصورة، وأنها متلبسة عليه بها، وأوهم فى كلامه هذا أنه أشكل عليه المسمى باسم الظبية على جهة الحقيقة، وأنه لا يميز بين الأمرين، هل اسم الظبية مستعار لأم سالم من الظبية الوحشية، أو يكون الأمر على العكس من ذلك، فلما كان الأمر كما قلناه سأل عن ذلك واستفهم عنه، فمتى سيق الكلام على هذا المساق، بلغ فى الفصاحة مكانا رفيعا، ويقرب من ذلك ما قاله بعضهم «١» :

بالله يا ظبيات القاع قلن لنا ... ليلاى منكنّ أم ليلى من البشر

فانظر إلى تحيره هل ليلاه من الإنس، أم من الوحش، وهمزة الاستفهام محذوفة، وقد دل عليها بقوله أم، لأنها تشعربها وتحذف معها كثيرا، إلا أن تكون أم منقطعة، فقد تأتى بغير همزة كما هو محقق فى علم الإعراب، ومن ذلك ما قاله زهير «٢» :

وما أدرى وسوف إخال أدرى ... أقوم آل حصن أم نساء

<<  <  ج: ص:  >  >>