اعلم أن هذا النوع من علوم البلاغة كثير التّدوار، عظيم الاستعمال فى ألسنة البلغاء، ويقع فى الكلام المنثور، وهو فى مقابلة التصريع فى الكلام المنظوم الموزون فى الشعر كما سنقرره، ومعناه فى ألسنة علماء البيان:«اتفاق الفواصل فى الكلام المنثور فى الحرف أو فى الوزن أو فى مجموعهما» كما سنفصل أنواعه، واشتقاقه من قولهم:«سجعت الناقة» إذا مدت حنينها على جهة واحدة، ومنه سجع الحمامة إذا هدرت، فإن اتفقت الأعجاز فى الفواصل مع اتفاق الوزن سمى المتوازى كقوله تعالى: فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤)
[الغاشية: ١٣- ١٤] وإن اتفقا فى الأعجاز من غير وزن سمى المطرف كقوله تعالى: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً
[نوح: ١٣- ١٤] . وكقول بعض البلغاء:«من حسنت حاله استحسن محاله» . وإن اتفقا فى الوزن دون الحرف سمى المتوازن كقوله تعالى: وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦)
[الغاشية: ١٥- ١٦] فإذا تقررت هذه القاعدة فلنذكر حكمه فى الاستعمال ثم نذكر شروطه، ثم نردفه بذكر أقسامه، ثم نذكر أمثلته فهذه فوائد أربع نفصلها بمعونة الله تعالى.
[الفائدة الأولى فى ذكر حكمه فى الاستعمال]
وفيه مذهبان:
[المذهب الأول جوازه وحسنه،]
وهذا هو الذى عول عليه علماء أهل البيان، والحجة على ذلك هى أن كتاب الله تعالى والسنة النبوية وكلام أمير المؤمنين مملوء منه وكلام البلغاء أيضا كما سنوضحه فى الأمثلة، فلو كان مستكرها لما ورد فى هذا الكلام البالغ فى الفصاحة كل مبلغ، ولأجل كثرته فى ألسنة الفصحاء لا يكاد بليغ من البلغاء يرتجل خطبة ولا يحرر موعظة إلا ويكون أكثره مبنيا على التسجيع فى أكثره، وفى هذا دلالة قاطعة على كونه مقولا مستعملا فى ألسنة الفصحاء فى المقامات المشهورة والمحافل المعهودة.
[المذهب الثانى استكراهه،]
وهذا شىء حكاه ابن الأثير، ولم أعرف قائله، ولا وجدته فيما طالعت من كتب البلاغة، ولعل الشبهة لهم فى استكراهه ما ورد عن الرسول صلّى الله عليه وسلّم لما أوجب فى الجنين غرة، عبدا أو أمة، فقال الذى أوجبها عليه «كيف تدى من لا شرب ولا