اعلم أن من الإيجاز ما لا يكون فيه حذف يقدر، من مفرد ولا جملة، ويقال له إيجاز البلاغة، وينقسم إلى ما يساوى لفظه معناه من غير زيادة، ويسمى التقدير، وإلى ما يزيد معناه على لفظه، ويسمى القصر، فهذان ضربان نذكر ما يتعلق بكل واحد منهما، وهذا القسم من الإيجاز له فى البلاغة موقع عظيم، دقيق المجرى، صعب المرتقى، لا يختص به من أهل الصناعة إلا واحد بعد واحد «ومهما عظم المطلوب قل المساعد» .
الضرب الأول فى بيان [الإيجاز بالتقدير]
وهو الذى تكون ألفاظه مساوية لمعناه لا يزيد أحدهما على الآخر بحيث لو قدر نقص من لفظه لتطرق الخرم إلى معناه على قدر ذلك النقصان، ولنشر منه إلى أمثلة خمسة.
المثال الأول: ما ورد من كتاب الله تعالى وهذا كقوله تعالى: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣)
[عبس: ١٧- ٢٣] فقوله قتل الإنسان، أبلغ دعاء على الإنسان، لما فيه من إذهاب الروح بسرعة وفجأة، وهو أعظم فى الفجيعة وقوله ما أكفره، تعجّب من شدة الإفراط فى كفره لنعم الله، فلا يكاد يقرع السمع أسلوب أغلظ من هذا الدعاء والتعجب، ولا أبلغ فى الملامة ولا أقطع للمعذرة، ولا أعظم دلالة على السخط مع تقارب أطرافه وقصر متنه، ثم أخذ فى صفة حاله من مبدإ حدوثه إلى منتهى زمانه فقال. من أى شىء خلقه؟ استفهام وارد على جهة التهكم والتقرير، ثم قال من نطفة خلقه، كأنه قال تأمل وانظر من أى شىء خلقتك على عظم هذه المخالفة وكفران أنعمى عليك، إنما خلقتك من نطفة وأى نطفة فى الغلظ والبشاعة ونتن الرائحة، فقدره، فأحكم قوام خلقته وسواها على جهة التعديل فى مطابقة المنافع، ثم السبيل يسره، إما سهّل خروجه من بطن أمه، وإما يسر سبيله إلى ثدى أمه، وإما يسر سبيله من سلوك طريق الخير والشر، كما قال: وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠)
[البلد: ١٠] ، ثُمَّ أَماتَهُ
نزع منه ما ركّب فيه من الروح، لما يريد من إعادته «فأقبره» أى جعله فى قبره يوارى فيه جيفته كيلا تمزقه السباع