اعلم أن التصريع فى المنظوم نظير التسجيع من كل كلام منثور، فإن التصريع إنما يرد فى الشعر لا غير، والسجع مخصوص بالمنثور، ومعناه فى الشعر أن يكون عجز النصف من البيت الأول من القصيدة مؤذن بقافيتها، فمتى عرفت تصريعها عرفت قافيتها، وأكثر ما يرد فى أشعار المتقدمين، وربما استعمله ناس من المتأخرين، ومن استعمله ممن تقدم أو تأخر فإنه دال على سعته فى فصاحته، واقتدار منه فى بلاغته، وهو إنما يحسن إذا كان قليلا فى القصيدة بحيث يكون جاريا مجرى الطراز للثوب، والغرة فى وجه الفرس، فأما إذا كان كثيرا فإنه لا يكاد يرضى لما يظهر فيه من أثر الكلفة فيكسب لفظه برودة ومعناه ركة، وظاهر كلام أبى بكر بن السراج أن التصريع إنما يكون إذا كان عروض النصف الأول مطابقا لعروض النصف الثانى، وتلك الموافقة إنما كانت لأجل التصريع، فأما إذا كان توافقهما لمعنى آخر غير التصريع فإنه ليس تصريعا، وإنما هو كلام مقفى وليس مصرعا، وظاهر كلام غيره أنه يكون مصرعا إذا حصل التطابق على كل حال، وما ذكره ابن السراج أحسن، ولهذا فإنه إذا كثر لم يكن حسنا، لأنه لا يظهر فيه أثر الكلفة إذا كان بالاعتبار الذى ذكره لا غير، ويرد على مراتب مختلفة متفاوتة فى الكمال والنقصان، ونحن نشير إلى درجاته بمعونة الله تعالى.
الدرجة الأولى [أن يكون كل مصراع من البيت مستقلا بنفسه فى فهم معناه]
منه وهى أعلى مراتب التصريع أن يكون كل مصراع من البيت مستقلا بنفسه فى فهم معناه غير محتاج إلى صاحبه الذى يليه مع ذكر فاصلة بينهما دالة على انقطاعه عنه، ومثاله قول امرىء القيس فى قصيدته اللامية «١» :
أفاطم مهلا بعض هذا التدلل ... وإن كنت قد أزمعت صرمى فأجملى
فإن كل مصراع من هذا البيت مفهوم على الاستقلال من غير حاجة له إلى الآخر فى لفظ ولا معنى مع حصول الفاصلة بينهما وهى الواو، فإنه جىء بها دلالة على الانقطاع وكقول أبى الطيب المتنبى «٢» :
إذا كان مدح فالنسيب المقدّم ... أكلّ فصيح قال شعرا متيم