اعلم أن المبالغة ترجع حقيقة أمرها إلى دعوى المتكلم للوصف اشتدادا فيما سيق من أجله على مقدار فوق ما يسلّمه العقل ويستقر به، ثم ذلك المقدار فى نفسه إما أن يكون ممكنا أو غير ممكن، والممكن إما أن يكون واقعا أو غير واقع، فدعوى كون الوصف على مقدار مستبعد يصح وقوعه عادة، يسمى مبالغة، ودعوى كون الوصف على مقدار ممكن يمتنع وقوعه عادة، يسمى إغراقا، ودعوى كون الوصف على مقدار غير ممكن يسمى غلوّا، فهذه ضروب ثلاثة نذكر ما يتوجه فى كل واحد منها بمعونة الله تعالى.
[الضرب الأول منها ما يستبعد فى العقل، لكن وقوعه صحيح وهو المبالغة،]
[النحل: ١١٢] فما هذا حاله معدود فى المبالغة، ولو قال عوض هذه المقالة تواضع لوالديك وللمؤمنين لرأيته خاليا عن ديباج البلاغة وعاريا عن ثوبها وكقول زهير:
لسان الفتى نصف ونصف فؤاده ... فلم يبق إلّا صورة اللحم والدّم «١»
فلقد بالغ فيما قاله حتى جعل حقيقة الإنسان إنما تكون بلسانه وقلبه، وبهما يحصل تمييزه عن سائر الحيوانات، ولو قال عوض هذا الكلام، تميّز الإنسان عن أصناف الحيوان هو بقلبه ولسانه لعزل البلاغة عن سلطانها، وأزالها عن رفيع محلها ومكانها، وكقول ابن دريد:
والناس ألف منهم كواحد ... وواحد كالألف إن أمر عنا
فانظر إلى مبالغته فيما ذكره من جعله ألفا من الناس كالواحد فى الإغناء وأنهم مع كثرتهم بمنزلة واحد من الخلق، وأن الواحد بمنزلة الألف فى كونه كافيا عنهم، كل ذلك مبالغة فى مدح الواحد من الناس لما كان مغنيا عن الكثير لجمعه للأوصاف الجميلة والمحامد الحسنة، وفى ذمه للكثير من الناس حيث كانوا فى الإغناء لا يسدون مسد واحد وإن كانوا عدة كثيرة، فهذه الأمثلة كلها دالة على المبالغة من غير إغراق ولا غلو، وهو المحمود فى المبالغة كما مر بيانه.