اعلم أن الكناية فى لسان علماء البيان ما عوّل عليه الشيخ عبد القاهر الجرجانى، وحاصل ما قاله هو أن يريد المتكلم إثبات معنى من المعانى، فلا يذكر باللفظ الموضوع له بل يأتى بتاليه، فيومىء به إليه ويجعله دليلا عليه، وتلخيص ما قاله هو اللفظ الدال على ما أريد به بالحقيقة والمجاز جميعا، ومثاله قولهم: فلان كثير رماد القدر، فإن هذا الكلام عند إطلاقه قد دل على حقيقته ومجازه معا، فإنه دال على كثرة الرماد، وهو حقيقته، وقد دل على كثرة الضّيفان، وهذا مجازه، وهذا يخالف الاستعارة، فإنك إذا قلت: جاءنى الأسد، وأنت تريد الإنسان، فإنه دال على المجاز لا غير، والحقيقة متروكة، وهذه هى التفرقة بين الكناية والاستعارة، والتفرقة بين التعريض والكناية، هو أن الكناية دالة على ما تدل عليه بجهة الحقيقة والمجاز جميعا، بخلاف التعريض، فإنه غير دالّ على ما يدل عليه حقيقة ولا مجازا، وإنما يدل عليه بالقرينة، فافترقا، وأمثلة الكناية كثيرة فى كتاب الله تعالى ولكنا نقتصر منها على قوله تعالى: وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ
[الحجرات: ١٢] فهذه الآية الكريمة قد اشتملت على أسرار فى الكناية قد أشرنا إليها ورمزنا إلى مقاصدها فى قاعدة الكناية من الكتاب، ومن ذلك قوله تعالى:
كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ
[المائدة: ٧٥] فهو دال على ما وضع له فى أصله من إفادته لحقيقة الأكل، ولكنه مقصود به قضاء الحاجة، وهو مجاز فى حقه، فلهذا قلنا بأن الكناية دالة على حقيقة الكلام ومجازه، ومن ذلك قوله تعالى: وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها
[الأحزاب: ٢٧] فقوله: وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها
كما يحتمل الحقيقة وهى الأرض المنبتة فهو يحتمل أن يراد به المجاز، وهو الفروج التى ملكهم إيّاها بالاسترقاق، فلهذا أحل الوطء، ويصدق هذه الكناية قوله تعالى: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ
[البقرة: ٢٢٣] فأما التعريض فهو كما أشرنا إليه دال بالقرينة وليس دالا على حقيقة ولا مجاز، وهذا كقوله تعالى فى قصة إبراهيم عليه السلام: قالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (٦٢) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (٦٣)