اعلم أن كثيرا من الجهابذة والنظّار من علماء البيان، وأهل التحقيق فيه، ما عوّلوا على بيان تعريفه بالحدود الحاصرة، والتعريفات اللائقة، ولا أشاروا إلى تصوير حقيقة يعرف بها من بين سائر العلوم الأدبية، والعلوم الدينية، كعلم الفقه، وعلم النحو، وعلم الأصول، وغيرها من سائر العلوم، فإنهم اعتنوا فيها نهاية الاعتناء. وأتوا فيها بماهيّات تضبطها وتفصلها من سائر العلوم. وعلى الجملة فإن ذلك غفلة لأمرين أما أولا فلأن الخوض فى تقاسيمه وخواصّه، وبيان أحكامه، فرع على تصوّر ماهيته؛ لأن من المحال معرفة حكم الشىء قبل فهم حقيقته. وأما ثانيا فلأن الخوض فى أسراره ودقائقه إنما هو خوض فى المركبات، والخوض فى معرفة ماهيته إنما هو خوض فى المفردات. ولا شكّ أنّ معرفة المفرد سابقة على معرفة المركب. ولأجل ما ذكرناه لم يكن بدّ من بيان معقوله، ومعرفة ماهيته. فإذا تمهدت هذه القاعدة فلنذكر معناه وبيان موضوعه ومنزلته من العلوم الأدبية، وثمرته وكيفية الوصول إليه. فهذه مطالب خمسة.
[المطلب الأول فى بيان ماهيته]
فإنما يتخصص بالإضافة، فيقال فيه علم المعانى، ويقال علم البيان، ويقال له علم المعانى والبيان جميعا، فكلّ هذه الإضافات جارية على ألسنة علمائه فى الاستعمال فى أثناء المحاورة. وعلى الجملة فله مجريان.
المجرى الأول منهما: لغوى، فإذا قيل: علم المعانى، فالمعانى جمع معنى كمضارب ومقاتل. والمعنى مفعل واشتقاقه من قولهم عناه أمر كذا إذا أهمه وقيل لما نفهم من الكلام معنى لأنه يعنى القلب ويؤلمه. وهو اسم والمصدر منه عناية، يقال عناه الأمر عناية. وإذا قيل: علم البيان فالبيان اسم للفصاحة. وفى الحديث «إنّ من البيان لسحرا» . والمصدر منه