المتأخر فيعلم بالاضطرار إلى قصد الواضع أن اللفظ لولا أنه حقيقة فى ذلك المعنى لما كان سابقا إلى الإفهام دون غيره.
«وثانيها» : أن يعلم من أهل اللغة أنهم متى أرادوا إفهام معنى من المعانى غيرهم، اقتصروا على عبارات مخصوصة، وإذا عبروا بذلك اللفظ عن معنى آخر لم يقتصروا عليها. بل ذكروا معها قرينة، فيعلم قطعا بهذا التصرف أن الأول حقيقة، والثانى مجاز إذ لولا علمهم بكون ذلك اللفظ حقيقة لذلك المعنى لما اقتصروا عليه.
«وثالثها» : أنهم إذا علّقوا الكلمة بما يستحيل عقلا تعلقها به، علم أنها فى أصل اللغة غير موضوعة لها فيعلم كونها مجازا فيها وهذا كقوله تعالى فى النقصان وَجاءَ رَبُّكَ
[الفجر: ٢٢] فإنه يستحيل عقلا تعلّق المجىء بالذات، لاستحالته عليها، فيعلم أن استعمالها مجاز بالنقصان، وأن الأصل وجاء أمر ربك وكقوله تعالى وَسْئَلِ الْقَرْيَةَ
[يوسف: ٨٢] فإنه لا يمكن سؤال القرية، فعلمنا أنه لا بدّ هناك من محذوف تقديره واسأل أهل القرية.
وفى الزيادة كقوله تعالى: لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ
[الشورى: ١١] فإنا لو خلّيناه وظاهر الآية كان المنفى إنما هو مثل مثل الله تعالى لا مثله على الإطلاق، والعقل يأبى ذلك ويبطله، فعرفنا أن ذكر الكاف زيادة وأن الحقيقة حذفها ونقصانها.
«ورابعها» : أن يضعوا لفظا لمعنى ثم تركوا استعماله على العموم وأطلقوه على بعض مجاريه كذوات الأربع، ثم قصروه بعد ذلك على بعض تلك المجارى، كالحمار، فعلمنا كونه مجازا بالإضافة إلى وضعه العرفى، ومثاله لفظ الدابة فإنها بالوضع اللغوى لكل حيوان، ثم تعورف وضعها فى ذوات الأربع من الحيوانات وصار حقيقة فيها عرفا، فإذا قصروها على الحمار من بين ذوات الأربع كان مجازا لا محالة بالإضافة إلى العرف، فهذه هى الفروق الواضحة، وقد أوردها ابن الخطيب الرازى ولنقتصر عليها ففيها غنية وكفاية.
[التقرير الثانى للفروق الفاسدة]
اعلم أن الشيخ أبا حامد الغزالى قد أورد أمورا للتفرقة بين المجاز والحقيقة، ولا بد من إيرادها وإظهار وجه فسادها وجملتها أربعة:
«أولها» : أن الحقيقة جارية على الاطراد، والمراد بالاطراد جريان الحقيقة فى كل موضع