اعلم أن هذا النوع إنما لقب بالتوشيح لأن معناه أن يبنى الشاعر قصيدته على بحرين من البحور الشعرية، فإذا وقف على القافية الأولى فهو شعر كامل مستقيم، وإذا وقف على الثانية كان بحرا آخر، وكان أيضا شعرا مستقيما من بحر آخر، فلما كان ما يضاف إلى القافية الأولى زائدا على الثانية سمى توشيحا، لأن الوشاح ما يكون من الحلى على الكشح زائدا عليه، ويقال له التشريع أيضا، لأن ما هذا حاله من الشعر فإن النفس تشرع إلى تمام القافية وكمالها، وقد يقع فى المنثور أيضا على معنى أن الفقرة الأولى تكون مختصة بتسجيعتين وتكون الثانية تابعة لها على هذا الحد، وهذا التوشيح إنما يقع ممن كان يتعاطى التمكن من صناعة النظم، عظيم البراعة فى ذلك مقتدرا على كثير من الأساليب، ومن أمثلته ما قاله بعض الشعراء:
اسلم ودمت على الحوادث ما رسا ... ركنا ثبير أو هضاب حراء
ونل المراد ممكّنا منه على ... رغم الدهور وفز بطول بقاء
فإذا اقتصرت على القافية الأولى وهى ما رسا ركنا ثبير، كان شعرا تاما قد اختص ببحر مخصوص، وإذا زدت عليه قولك أو هضاب حراء، كان شعرا آخر مختصا ببحر آخر، وهكذا حال البيت الثانى كما ترى، وهكذا قوله «١» :
وإذا الرّياح مع العشىّ تناوحت ... هدج الرّئال تكبّهنّ شمالا
ألفيتنا نقرى العبيط لضيفنا ... قبل العيال ونقتل الأبطالا
فالاقتصار على قوله هدج الرئال بيت على حياله على بحر من بحور الشعر، فإذا زدت قوله تكبهن شمالا، كان شعرا وخرج عن البحر الأول، وهكذا حال البيت الثانى فى قوله قبل العيال مع قوله ونقتل الأبطالا، وقد وقع فى الحريريات كقوله «٢» :
يا خاطب الدنيا الدّنية إنها ... شرك الرّدى وقرارة الأكدار
فقوله شرك الردى، بيت كامل على بحر مخصوص، وإذا أضفت إليه قوله وقرارة الأكدار، كان شعرا وكان من بحر آخر، وقد روى عن بعض الشعراء أنه كان ينظم القصيدة على ثلاثة أبحر من الشعر ثم ينشد كل واحد منها على حياله مخالفا للآخر، واقترح عليه بعض أصحابه أن يصنع مثل ذلك فصنعه وأجاد فيه، نعم وإن كان واردا فى المنظوم والمنثور كما ذكرناه، ولكن وروده فى المنظوم أحسن بهجة وأرسخ عرقا فى البلاغة.