وأعلاه. وهذا هو المراد من البلاغة. فقد افترقا مع إشراكهما فى تعليقهما بالتركيب. ومن ههنا امتاز قوله تعالى: وَلَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ
[البقرة: ١٧٩] عما يؤثر عن العرب من قولهم «القتل أنفى للقتل» .
ومن أحاط علما بالفصاحة، وتغلغل فكره فى إحراز أسرارها، عرف أن بين ما ورد فى التنزيل، وبين ما أثر عن العرب فيما أوردناه من المثال فى الفصاحة والبلاغة، بونا لا تدرك غايته، وبعدا لا يحصر تفاوته، ولهذا فإنه من كان من المفسّرين نظره فى تفسير كلام الله مقصورا على معرفة المعانى الإعرابية، وبيان مدلولات الألفاظ الوضعية لا غير، من غير بيان ما تضمنه من أنواع الفصاحة والبلاغة، وتقرير مواقعهما الخاصة. فإنه يعدّ مقصّرا في تفسيره لكونه قد أخلّ بمعظم علومه، وأهملها وأعرض عن أجلّ مقاصده وتركها. وهو معرفة الإعجاز، لأنه موقوف على ما ذكرناه من معرفة الفصاحة والبلاغة جميعا.
ومن اعتمد فى تفسير كلام الله على ملاحظة جانب الفصاحة والبلاغة، ونزّل المعانى القرآنية عليها، سلم عن أكثر التأويلات النادرة، وبعد عن حمله على المعانى الركيكة التى وقع فيها كثير من المفسرين كما هو مذكور فى كتبهم.
[المطلب الثالث في بيان منزلته من العلوم وموقعه منها]
اعلم أن الكلام فى منزلة الشىء من غيره إنما يكون فيما يظهر فيه التقارب فى الجنسية.
فأما مع تباعد الحقائق وتباينها فلا يقال ذلك. ولهذا يقال أين منزلة الإنسان من الحيوان، ولا يقال أين منزلته من الأحجار. فنحن إنما نذكر منزلة علم البيان من العلوم الأدبية دون غيرها من سائر العلوم. فإذا تقرر هذا فنقول العلوم الأدبية على أربعة أنواع:
فالنوع الأول منها: علم اللغة العربية وهو علم بمعانى الألفاظ المجردة. فإن حاصله استفادة المعانى المفردة من الأوضاع اللغوية. فالعلم بأن الإنسان والفرس والجدار وغيرها من الألفاظ موضوعة لهذه الحقائق المفردة، إما بالتوقيف، وإما بالمواضعة، أو يكون بعضها بالتوقيف، وبعضها بالمواضعة، أو الوقف فى ذلك. وتجويز هذه الاحتمالات من غير قطع فى واحد منها إلى غير ذلك من الخلاف فيها ليس من همنّا ذكره لخروجه عن مقصدنا.
النوع الثانى: علم الإعراب. وهو علم بالمعانى الإعرابية الحاصلة عند العقد،