اعلم أن الفصاحة من عوارض الكلم اللفظية، وهى خلاصة علم البيان وصفوة جوهره، ويوصف به المفرد والمركب، وهى أخص من البلاغة، ولهذا يقال كل بليغ من الكلام فصيح، وليس كل فصيح بليغا، ولا يكون الكلام فصيحا إلا إذا كان مختصا بصفات ثلاث، الأولى منها أن يكون خالصا من تنافر الأحرف فى تأليف اللفظة ونظامها، فيسلم من مثل قولنا «عنجق» وعن مثل قولك «هعخع» فإن ما هذا حاله مجانب للفصاحة بمعزل عن أساليبها، ولهذا عيب على امرىء القيس قوله «غدائره مستشزرات إلى العلى» لما فى «مستشزرات» من التنافر المورث للثقل والبشاعة، الثانية أن يكون مجنّبا عن الغرابة والعنجهانية، فما هذا حاله يكون عاريا عن الفصاحة، وهذا كقولك فى الخمر إنها «الزّرحون» وإنها «القرقف» فيعدّ هذا من وحشى الكلام وغريبه، فما ألف كان أدخل فى الفصاحة. الثالثة أن يكون موافقا للأقيسة الإعرابية، فلا يخالفها فى تصريف ولا إعراب، فيجب إعلال الكلمة على القوانين الجارية فى علم الإعراب، فلا يقال فى «قام» قوم، ولا فى «قائم» قاوم، وإن كان أصلا، ولا يقال «الحمد لله العلى الأجلل» وإن كان هو الأصل، بل يجب إجراء ذلك على الإعلال والإدغام، وإلا كان خارجا عن الفصيح من الكلام، وقد قررنا شرح هذه القاعدة فى أول الكتاب فأغنى عن الإعادة، فإذا تمهدت هذه القاعدة، فإنك إذا تحققت الألفاظ الواردة فى هذه الآية وجدتها سالمة عن التنافر فى بنائها، عربية مألوفة جارية على الأقيسة المطردة فى الإعراب والتصريف، بعيدة عن الغرابة، سليمة عن العنجهانية، تشبه العسل فى الحلاوة، والماء فى الرقة والسلاسة، وكالنسيم فى السهولة، لا تنبو عن قبولها الأذهان، ولا تمجّها الآذان.
[البحث الرابع فى بيان موقعها من الفصاحة المعنوية]
اعلم أن الفصاحة المعنوية هى غاية علم المعانى، والفصاحة المعنوية المراد بها البلاغة، وهى من عوارض المعانى، وهى متضمنة للفصاحة اللفظية، ولهذا فإن الكلام البليغ لا يكون بليغا إلا مع إحرازه للفصاحة، فهى فى الحقيقة راجعة إلى المعنى واللفظ جميعا، ولها