للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

[التنبيه الرابع]

قوله: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً

[الأعراف: ٥٤] ظاهر الآية ههنا دال على أن الغاشى هو الليل لقوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى

[الليل: ١] فالليل إذا غاش للنهار يطلبه، فهذا هو الظاهر من الآية ويحتمل أن يكون الغاشى هو النهار، وأن الغشيان مضاف إليه دون الليل، وأن الليل لا يغشى النهار، بخلاف التكوير فى قوله تعالى:

يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَيُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ

[الزمر: ٥] وبخلاف الإيلاج فى قوله تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ

[الحديد: ٦] فإن التكوير والإيلاج يصلح أن يكون فى كل واحد منهما كما فى ظاهر هاتين الآيتين، والسر فى ذلك هو أن التكوير هو الجمع، يقال: كور الليل، إذا جمعه ومنه كارة القصار، والإيلاج هو الإدخال يقال:

ولج فى بيته، إذا دخل فيه، وهذان المعنيان يصلحان فى كل واحد من الليل والنهار، لأن الليل يجمع على النهار كما يجمع النهار على الليل، وهكذا الإيلاج، فإن الليل يدخل فى النهار، كما يدخل النهار فى الليل. بخلاف الغشيان، فإنه مخصوص بالنهار، والسر فى ذلك هو أن النور أمر وجودى محقق، والظلمة أمر عدمى، وحقيقتها آئلة إلى أنها عدم النور، فهكذا تقول: الليل حقيقة آئلة إلى عدم الإضاءة، والنور حقيقة آئلة إلى حصول الإضاءة والإنارة، وإذا كان الأمر كما قلناه من ذلك صح وصف النهار بالغشيان لظلمة الليل، لأنه يطلع بالإنارة فيغشى الليل بإذهابه، ووصف النهار بكونه غاشيا استعارة حسنة، إذ الغشاء هو الغطاء فنزله أعنى النهار فى إذهابه لظلام الليل، منزلة من يغطى الشىء بالغشاوة ويستره، لأنه يذهب ظلمته ويزيلها بطلوعه، ويمحوها بإنارته.

ويجوز أن يكون من باب التشبيه، ولهذا فإنك لو أظهرت أداة التشبيه لحسن ذلك، فتقول النهار يذهب ظلمة الليل عند غشيانه كالثوب يغشى جسد الإنسان ويشتمل عليه عند ارتدائه به، وتوجيهه على جهة الاستعارة ألطف بمعناه، وأرق لألفاظه من التشبيه لأن الاستعارة فيه أظهر، لأن المستعار منه مطوى الذكر، فلهذا حسن موقعها وأنت إذا أظهرت أداة التشبيه تكاد تنقص من بلاغته، وتغض من موقع فصاحته وإنما قال: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ

[الأعراف: ٥٤] ولم يقل يلبس ولا يخلط الليل بالنهار، لأن لفظة التغشية، أبلغ فى الإحاطة والشمول من لفظة الإلباس والاختلاط، مع ما فيها من الرقة واللطافة، والخفة والسلاسة، وهى مؤذنة أيضا بشدة الاتصال والالتحام بين الغشاوة، والمغشى،

<<  <  ج: ص:  >  >>