المجرى الأول منهما ما يكون عامّا، وذلك ينحصر فى صورتين
، الصورة الأولى منهما، أن يشتهر استعمال المجاز بحيث يكون استعمال الحقيقة مستنكرا
وهذا نورد فيه أمثلة ثلاثة:«المثال الأول» :
حذف المضاف، وإقامة المضاف إليه مقامه، كقولنا «حرّمت الخمر» والتحريم مضاف إلى الخمر، وهو بالحقيقة مضاف إلى الشرب، وقد صار هذا المجاز أعرف من الحقيقة، وأسبق إلى الفهم منها كما ترى. «المثال الثانى» : تسميتهم الشىء باسم ما يشابهه، وهذا نحو تسميتهم حكاية كلام المتكلم بأنه كلامه، كما يقال لمن أنشد قصيدة لامرىء القيس: بأنه كلام امرىء القيس لأنّ كلامه بالحقيقة هو ما نطق به، وأما حكايته فكلام غيره، فإضافته إلى الغير مجاز، لكنه قد صار حقيقة، لسبقه إلى الأفهام، بخلاف الحقيقة. «المثال الثالث» :
تسميتهم الشىء باسم ما له تعلق به، وهذا نحو تسميتهم قضاء الحاجة بالغائط، وهو المكان المطمئن من الأرض، فإذا أطلق الغائط فإن السابق إلى الفهم منه مجازه، وهو قضاء الحاجة، دون حقيقته، وهو المكان المطمئن فصارت هذه الأمور المجازية حقائق بالتعارف من جهة أهل اللغة، تسبق إلى الأفهام معانيها دون حقائقها الوضعية اللغوية.
[«الصورة الثانية» : قصر الاسم على بعض مسمياته، وتخصيصه به]
وهذا نحو لفظ الدابة، فإنها جارية فى وضعها اللغوىّ، على كلّ ما يدبّ من الحيوانات من الدودة، إلى الفيل. ثم إنها اختصّت ببعض البهائم، وهى ذوات الأربع من بين سائر ما يدبّ، بالعرف اللغوى، فهذا مثال. «المثال الثانى» : الملك، مأخوذ من الألوكة، وهى الرسالة، ثم إنه اختصّ ببعض الرسل، وهم رسل السماء، أعنى الملائكة. «المثال الثالث» : لفظ الجنّ، والقارورة، فإنه موضوع لكل ما استتر عنك، ولما كان مقرّا للمائعات، ثم اختصّ الجنّ ببعض من يستتر عن العيون، واختصّت القارورة ببعض الآنية، دون غيره مما يستقر فيه. فالعرف اللغوىّ لا ينفكّ عن هاتين الصورتين دون غيرهما، ولم يثبت جريه على خلافهما، فلهذا لم يجر إثباته فصارت هذه الألفاظ جارية على جهة الحقيقة على معانيها بالعرف اللغوى، ومعنى الحقيقة حاصلة فيها فلا جرم قضينا بكونها حقائق عرفية لما ذكرناه.